أوباما وسياسته الخارجية المرتجلة
إنها مفارقة كبيرة أن تقوم الحكومة الأميركية بدعوة الأميركيين للخروج من ليبيا قبل يوم من إلقاء الرئيس أوباما خطابه الكبير في "ويست بوينت" دفاعاً عن سياسته الخارجية الحكيمة والحذرة.كانت ليبيا تُعتبر في السابق نموذجاً لنوع التدخل الذي يجيده أوباما: إنه التدخل العسكري المدروس على نحو مدهش والمغلَّف بخطاب متلفز ومنمّق نقلته مختلف قنوات البلد للإعلان عن أحدث عقيدة له في مجال السياسة الخارجية (لقد تغيرت كي تتماشى مع أحدث قرار مرتجل اتخذه): "مسؤولية الحماية". لم نعد نسمع الكثير عن مبدأ "مسؤولية الحماية" اليوم، لاسيما بعد ذبح أكثر من 50 ألف مدني خلال الحرب الأهلية السورية، من دون توفير أي حماية من الولايات المتحدة. ولم نعد نسمع الكثير عن ليبيا أيضاً، الآن وقد أصبح الوضع فوضوياً على نحو خطير، وبات البلد معقلاً للمجاهدين لدرجة أن وزارة الخارجية الأميركية بدأت تطلب من الأميركيين الرحيل من هناك.
نحن لم نسمع أي أمر مهم في خطاب "ويست بوينت"، بل إنه كان عبارة عن احتفال حزين يرتكز على حجج واهية، فراح الرئيس يهنئ نفسه لأنه وضع البلد على مسار متأرجح ومضطرب ما بين الانعزالية التامة والتدخل المتهور، كان ذلك الخطاب موازياً لمزحة كلاسيكية في مجال الأمن القومي، حيث يطرح مساعدو الرئيس المتخصصون تطبيق سياسة مجهولة مذكّرة بالقرارات التالية:الخيار الأول: حرب نووية شاملة.الخيار الثاني: استسلام أحادي الجانب.الخيار الثالث: سياسة مجهولة.السياسة الانعزالية التي يعتمدها أوباما لا مثيل لها في أي مكان آخر، ولا حتى راند بول كان سينسحب من كل مكان، حتى أعضاء اليسار المؤيد للحلول السلمية في الكونغرس دعوا إلى إرسال طائرات بلا طيار إلى نيجيريا! بنظر الكثيرين، يُعتَبر مؤيّدو سياسة التدخل من الأشخاص الذين "يظنون أن التدخل العسكري هو الطريقة الوحيدة كي تتجنب الولايات المتحدة أن تبدو بموقف ضعف"، لكن يرفض أوباما بكل شجاعة أن يصدّق أن "كل مشكلة لها حل عسكري".هل يمكن أن نسمّي شخصاً واحداً يصدق ذلك؟حين كان أوباما يتحدث عن أوكرانيا مؤخراً، سأل محتجاً: "لماذا يتوق الجميع إلى استعمال القوة العسكرية؟"، في الحقيقة، لا أحد يتوق لذلك، ما يريده الناس الواقعيون فعلاً هو إرسال المساعدات العسكرية إلى القوات الأوكرانية التي تفتقر إلى المعدات الفاعلة.هذا ما طلبه رئيس الوزراء المؤقت حين زار البلد في شهر مارس، لكن طلبه رُفض، وبعد مرور شهرين، كانت المساعدات العسكرية أول ما طلبه بيترو بوروشينكو، رئيس أوكرانيا المنتخَب حديثاً، من الولايات المتحدة، ملاحظة: هو لم يطالب بأي انتشار عسكري ميداني. ينطبق الأمر نفسه على سورية، كان أوباما، وليس منتقدوه، هو الذي أوشك على شن ضربة عسكرية بعد استعمال الأسلحة الكيماوية هناك، لكنه عاد وتراجع عن ذلك القرار. كان النقاد يتوسلون أوباما كي يساعد على تدريب الثوار الذين يفتقرون إلى العناصر والأسلحة، وكي يمنحهم المعدات اللازمة (ها هو يعترف الآن بأنه قد يطبّق هذه السياسة أخيراً!).تأخرت هذه الخطوة ثلاث سنوات، سبق أن استعاد النظام سيطرته على القصير وحمص والضواحي الكبرى من دمشق، وبدأت المعركة الآن تميل لمصلحة الأسد (بدعمٍ من روسيا وإيران و"حزب الله"، في حين يتابع أوباما تردده) لدرجة أنه سيجري انتخابات رئاسية وسيفوز بها حتماً الأسبوع المقبل. وسط هذه المعمعة كلها، يبدو أن أوباما لا يدرك حجم التراجع الذي يعيشه بلده، هو يعتبر أن الادعاءات المتعلقة بتراجع النفوذ الأميركي مجرد سوء قراءة للتاريخ أو انعكاس للسياسات الحزبية، لكن تتعلق المشكلة الفعلية بواقع أن معظم الشكاوى تأتي من الخارج، وتحديداً من حلفاء الولايات المتحدة الذين لا يرتبطون بأي شكل بالسياسة الأميركية الحزبية. هم يشعرون بالقلق على أمنهم الخاص في حين يشاهدون الرئيس وهو يقدم تنازلات متعددة بدءاً من وارسو وصولاً إلى كابول.ماذا سيكون رأي العالم حين يبرر أوباما إبقاء قوة صغيرة في أفغانستان ("بعد جميع التضحيات التي قدمناها، نريد أن نحافظ على المكاسب التي فزنا بها بمساعدتكم")، ثم يعلن تقليص القوات الأميركية كي تقتصر على 10 آلاف عنصر، على أن يليه انسحاب كامل خلال سنتين وفق جدول زمني ثابت بغض النظر عن الظروف؟ هذه السياسة تتعارض مع الفرضية السائدة، إذا لم يشأ إهدار المكاسب التي حصدناها مقابل ثمن باهظ (مثلما أهدرنا جميع مكاسبنا في العراق بسبب الانسحاب عام 2011)، لماذا لا ندع الظروف تحدد مسار الانسحاب بعد عام 2014؟ ما الذي يدفعنا إلى سحب جميع القوات، بحلول عام 2016 تحديداً؟سيحصل ذلك على الأرجح للسبب نفسه الذي أوقف حملة زيادة القوات العسكرية في أفغانستان في عام 2012، وسط احتدام موسم القتال، لكن قبل الانتخابات في شهر نوفمبر، قد تكون المهلة النهائية المحددة لأفغانستان، في عام 2016، عاملاً مساعداً للديمقراطيين على المستوى الانتخابي، وبما أن أوباما سيبقى في منصبه حتى ذلك الوقت، فستكون تلك الخطوة بمثابة إنجاز لامع جديد يُضاف إلى مسيرته. هل يمكن أن يقرر بلد عظيم مسار الحرب والسلم بهذه الطريقة، أي أن يساعد حزباً معيناً ويلمّع سمعة رجل واحد؟ كما هو ملاحَظ في خطاب "ويست بوينت" وفي كامل السياسة الخارجية المبنية على الانسحاب، لا يمكن إلا أن نندهش أمام ضعف المشهد كله!* تشارلز كراوثامر | Charles Krauthammer