الوقوع في حب «مرتا حدّاد»

نشر في 05-08-2014
آخر تحديث 05-08-2014 | 00:01
 د. نجمة إدريس قلت لصديقتي بعد قراءة رواية "أميركا" لربيع جابر إنني على كثرة قراءاتي للروايات على مدى العمر فإنني لم أتمنَ قط أن أكون إحدى الشخصيات في أي منها، لكن بعد معايشتي لـ"مرتا حداد" عبر رواية "أميركا" تمنيت بحق أن أكون "مرتا حدّاد" في حياة سابقة أو لاحقة!

والرواية الأشبه بالسيرة الذاتية ليست معنية فقط بسيرة امرأة مكافحة وإن كانت هي بؤرتها ونواتها، وإنما نستطيع أن نقول انها سجل توثيقي يؤرخ لهجرة الشاميين من السوريين واللبنانيين إلى الأميركتين مطالع القرن العشرين. وفي حين ظلت المصادر التاريخية المعنية بتوثيق هذه الهجرة مجرد تاريخ يُعنى بالمعلومة وحيثياتها، جاءت رواية "أميركا" لتتوهّج بذلك البعد الإنساني الضاجّ بالحياة والمعايشة والمشاهد الحميمة والتي عادة ما تُفتقَد في السرد التاريخي المحض. صحيح أن المؤلف اتكأ على المصادر التاريخية من كتب ودوريات ومذكرات وسجلات بل وأوردها كهوامش توثيقية تسند المتن، إلا أن روعة الرواية ظلت معتمدة على موهبة الكاتب في التخييل والتمثيل وحبك الوقائع وضخ الشخصيات بحرارة اللحم والدم.

أتصور بأن أي قارئ لرواية "أميركا" لا بد أن يقع في حب "مرتا حدّاد" بطلتها وأيقونتها المتفردة. ليس فقط بسبب كفاحها وكدحها المتواصل لضمان حياة كريمة في أرض جديدة وغريبة وقاسية، وإنما لجوهرها الجميل المراوغ، وانكفائها الغامض على مزيج من الهشاشة والصلابة، وتمثيلها لنموذج الذكاء الأنثوي والفطنة الذكورية معاً في معناهما الأبعد. ثم فوق ذلك لقدرتها على تأسيس ذلك الصرح العائلي والمالي خلال مسيرة حياة حافلة بالعذاب والمسرّات.

في البدء تطالعنا "مرتا" - التي لما تتجاوز العشرين من العمر – مغادرة قريتها في جبل لبنان إلى أميركا بحثاً عن زوجها "خليل" الذي اختفت أخباره. تقطع الطريق وحيدة عبر الأطلسي وعبر مدن أميركا من نيويورك وحتى نيوأوليانز حيث يقيم الزوج – كما قيل لها – والذي لخيبة الأمل تجده مرتبطاً بصاحبة المزرعة. يتجاهلها "خليل" حين يراها قادمة في عربة متهالكة، فتعود أدراجها ممتلئة بيأس ومرارة كبيرين.

وهكذا تجد "مرتا" نفسها امرأة وحيدة هاربة من ذكرى زوجها، تكافح بصمت لصناعة حياة جديدة بقوة واقتدار. وبسبب عموم الظرف التاريخي الذي يجد المهاجرون الشاميون أنفسهم فيه، يتوسع المؤلف في رصد سيرة مجموعة من الشخصيات التي كانت "مرتا" تتحرك بينهم، فيلقي الضوء على ظاهرة "الكشّاشين" وهم الباعة المتجولون الذين يحملون بضاعتهم في صناديق على ظهورهم ويجوبون المدن والبلدات الأميركية، وقد كانت "مرتا" كشّاشة مثلهم في بدء حياتها، تحمل سلتها المملوءة بالألبسة والمطرّزات وتطرق الأبواب وتبيت على حافات المزارع والطرقات.

وقد كان هذا المنحى في السرد مدخلاً مناسباً لوصف المدن والأرياف الأميركية ومظاهر الحياة فيها مطلع القرن العشرين، ثم مدى ما تكبده المهاجرون من حياة قاسية ممزوجة بالدم والعرق من خلال اشتغالهم كباعة متجولين أو كعمّال أو كمجندين في الجيش الأميركي إبان الحربين العالميتين.

أما غريغوري سكياس وجوزف أصطفان مواطناها من الأرمن، فقد كانت شخصيتاهما في بعدهما الفني والإنساني أشبه بالعكازتين أو بالأحرى الجناحين اللذين أعانا "مرتا" على الطيران والتحقق. ودائماً هي الحياة هكذا لا تخلو من ملائكة يُبعثون في هيئة بشر "ربما"، ليمهدوا للغرباء والمنسيين الطريق هكذا بقدرة غامضة رؤوم.

بموت "خليل" زوج "مرتا" خلال الحرب الأولى، تتهيأ الظروف القدرية للقائها بمواطنها الدرزي "علي جابر"، الذي تتوطد معه المشاعر بعد لأي وتنتهي بزواج ناجح وعلاقة حميمة تثمر البنين والبنات. في ذات الوقت كان "مرتا" تكبر وتزدهر محالها التجارية وتتوسع أعمالها وتنمو عقاراتها بوجود الزوج، ثم تستمر بعد وفاته، ويكبر الأبناء ويكثر الأحفاد.

وهكذا تظهر "مرتا" شاهدة على هذا التاريخ الإنساني الثري، ونموذجاً ممثلاً لحقبة تاريخية مليئة بالتحديات. ويبقى في تاريخ الشعوب ما يستحق أن يُكتَب عنه، وما يستحق أن يُعاش ويُقارَب مرة أخرى بمستوى من مستويات الفن الرفيع. ورواية "أميركا" كانت كذلك.

back to top