بيكيتي في الصين

نشر في 15-07-2014
آخر تحديث 15-07-2014 | 00:01
يعمل زعماء الصين بالفعل على توجيه عملية الانتقال إلى نموذج نمو يحركه الاستهلاك المحلي والإنتاج ذو القيمة المضافة العالية، ولكن التحديث أكثر تعقيداً من هذا، ذلك أن النموذج الجديد يسعى إلى ضمان تكوين الثروة بشكل مستدام وتقاسمها على نطاق واسع، والنجاح في هذه المهمة من شأنه أن يحقق الحلم الصيني، والفشل يعني استمرار التفاوت بين الناس.
 بروجيكت سنديكيت في كتابه "رأس المال في القرن الحادي والعشرين"، يزعم توماس بيكيتي أن الرأسمالية تفضي إلى تفاقم فجوة التفاوت بين الناس من خلال عِدة آليات، جميعها تقوم على نظرية مفادها أن العائد على رأس المال ينخفض بسرعة أقل من النمو في الدخل، وفي حين ركزت المناقشة حول كتاب بيكيتي إلى حد كبير على الاقتصادات المتقدمة، فإن هذا المفهوم الأساسي يناسب تجربة الصين الأخيرة، وبالتالي فهو يستحق دراسة أكثر عمقا.

بطبيعة الحال، استفادت حصة كبيرة من سكان الصين من ثلاثة عقود من نمو الناتج المحلي الإجمالي بسرعة غير مسبوقة، وقد استفاد الاقتصاد بالكامل من الاستثمارات الرأسمالية الثابتة التي شكلت الأساس الذي قام عليه نموذج النمو في الصين إلى حد كبير؛ فبفضل تحسين البنية الأساسية على سبيل المثال، تمكن الفقراء في المناطق الريفية من زيادة إنتاجيتهم ودخولهم.

ومع ارتفاع معدل الاستثمار إلى ما يقرب من نصف الناتج المحلي الإجمالي، انخفضت حصة الاستهلاك إلى ما يقرب من الثلث، وبدأت الحكومة، التي أدركت الحاجة إلى إعادة توازن النمو، في زيادة الحد الأدنى للأجور في عام 2011 بما يعادل ضعف نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي تقريبا، فضمنت بذلك حصول الأسر المتوسطة على المزيد من الدخل المتاح للإنفاق.

ولكن أسعار العقارات ارتفعت بشكل أسرع من الأجور والأرباح في قطاعات الصناعة التحويلية، الأمر الذي دفع العائد على رأس المال لمصلحة قِلة مختارة من أصحاب العقارات إلى النمو بسرعة أكبر من نمو الناتج المحلي الإجمالي في الصين. ونتيجة لهذا فإن شريحة الواحد في المئة الأعلى دخلاً في الصين يجمعون الثروة بسرعة أكبر كثيراً من نظرائهم في بقية العالم، ومن المواطن الصيني المتوسط.

والواقع أنه في حين أدى صعود الصين وغيرها من الاقتصادات الناشئة إلى تضييق فجوة التفاوت بين البلدان، فإن التفاوت على المستوى المحلي ارتفع في كل مكان تقريبا، ويسلط إطار بيكيتي الضوء على العديد من العوامل التي تدفع في هذا الاتجاه.

فبادئ ذي بدء، خلقت العولمة بفضل خفض الحواجز المعوقة للتجارة والاستثمار بيئة يستأثر فيها الفائز بكل شيء، وفيها أيضاً اكتسب الفاعلون الأكثر تقدماً على المستوى التكنولوجي حصة في السوق من خلال الاقتصادات الكبيرة الحجم، وبشكل خاص، مع تحرك الاقتصاد العالمي باتجاه خلق القيمة القائمة على المعرفة، فسوف تكون مكاسب قِلة من المبدعين في العلامات التجارية العالمية والتكنولوجيا الفائقة والصناعات الخلاقة هائلة، مع تعظيم طفرة الازدهار العالمية في أسهم التكنولوجيا لمكاسبهم.

ويعمل تركيز العائد والثروة والسلطة نتيجة لهذا على تقويض الاستقرار النظامي من خلال خلق كيانات أكبر من أن يسمح لها بالإفلاس، في حين يعيق قدرة المشاركين الأصغر حجماً على المنافسة، ويعمل النظام المالي العالمي على تعزيز هذا التركيز، مع تعزيز أسعار الفائدة الحقيقية السلبية للقمع المالي المفروض على مدخرات الأسر، ولأن البنوك تفضل إقراض الشركات الأكبر حجماً والمقترضين الذين يستطيعون تقديم ضمانات، فإن الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم تناضل في محاولة لاكتساب القدرة على الوصول إلى الائتمان ورأس المال.

ومن بين المشاكل الأخرى أن أسعار الفائدة المنخفضة التي تولدت عن السياسات النقدية غير التقليدية التي تنتهجها البنوك المركزية في البلدان المتقدمة أدت إلى "نضوب رؤوس الأموال" في صناديق التقاعد الدولية، وبالتالي عملت على التقليل من تدفق دخول معاشات التقاعد إلى الاقتصاد، وفي العديد من الاقتصادات الناشئة، بما في ذلك الصين، يعمل الخوف من عدم كفاية دخل التقاعد على تغذية ارتفاع معدلات ادخار الأسر.

ويتفق خبراء الاقتصاد إلى حد كبير على هذا الاتجاه نحو التفاوت بين الناس لا يمكن تحمله، ولكنهم يختلفون حول كيفية الحد منه، فيسوق أنصار اليمين الحجج للإبداع الأكثر استناداً إلى السوق لخلق الثروة، في حين يسوق أنصار اليسار الحجج للمزيد من تدخل الدولة.

والواقع أن كلا النهجين له دور يلعبه، وخاصة في الصين، حيث تلاحق الحكومة استراتيجية نمو أكثر توجهاً نحو السوق ولكنها تحتفظ بقدر كبير من السيطرة على العديد من جوانب الاقتصاد، ويتعين على الصين أن تعمل على إيجاد التوازن بين الاستقرار المدعم بالسياسات والتقدم الذي تحركه السوق.

وبشكل خاص، أدت عوامل تتعلق بالسياسات وعوامل أخرى مؤسسية إلى تسعير الموارد الرئيسية بأقل من قيمتها الحقيقية، الأمر الذي يعمل على توليد مخاطر كبرى، وقد عملت قوة العمل الضخمة على دفع سعر اليد العاملة إلى الانخفاض، الأمر الذي أعاق الانتقال إلى نموذج النمو المرتفع الدخل الذي يحركه الاستهلاك. وعلى نحو مماثل، ساهم الفشل في وضع العوامل الخارجية البيئية في الحسبان في خفض أسعار الموارد الطبيعية عن قيمتها الحقيقية، وهو ما يغذي الاستهلاك المفرط للموارد ويخلق مشكلة تلوث خطيرة. وعلاوة على ذلك، كانت السياسات الرامية إلى تثبيت استقرار سعر الصرف والإبقاء على أسعار الفائدة منخفضة سبباً في خفض تقييم رأس المال والمخاطر في المشاريع الكبرى. كما عملت الجهود التي تبذلها الحكومات المحلية لتمويل التنمية من خلال بيع الأراضي للمستثمرين بأسعار منخفضة بشكل مصطنع على تحفيز استثمارات هائلة في التطوير العقاري، الأمر الذي دفع أسعار العقارات إلى الارتفاع بمعدلات مرتفعة بصورة غير مستدامة، ولأن العقارات تلعب دوراً باعتبارها الشكل الرئيسي لضمانات القروض المصرفية فقد ارتفعت المخاطر المالية بشكل حاد. والآن تسعى الحكومة إلى تخفيف المخاطر التي خاضها المستثمرون والحكومات المحلية من خلال السماح بقدر أكبر من مرونة أسعار الفائدة والصرف، ولكن لابد من التعامل مع الانتقال بحذر لضمان عدم هبوط أسعار العقارات بشكل حاد، وهو ما من شأنه أن يزيد من نسبة القروض المتعثرة، بل ربما يؤدي حتى إلى إشعال شرارة أزمة مالية كبرى.

ومن أجل ضمان الاستقرار الاجتماعي في الأمد البعيد، يتعين على الصين أن تشجع خلق الثروة الشاملة، على سبيل المثال، من خلال إنشاء حوافز قوية للإبداع، ويُعَد صعود شركات التكنولوجيا الفائقة مثل هواوي وتينسينت وعلي بابا خطوة في الاتجاه الصحيح، وإن كان الأمر لا يخلو من التعقيد لأن شركات التكنولوجيا الصينية الأكثر نجاحاً مدرجة في الخارج، وهي بالتالي غير متاحة للمستثمرين الرئيسيين، وتمنع القيود التنظيمية وضوابط الصرف قطاع التجزئة من الاستفادة من تكوين الثروات الجديدة.

ويكمن تحد آخر في انحدار مؤشر بورصة شنغهاي المجمع من الذروة التي بلغها في عام 2007 عند مستوى 6000 نقطة إلى نحو 2000 نقطة فقط اليوم. ومع فشل الأصول المالية في تحقيق الأرباح الكافية أو رفع قيمة رأس المال، تحول العديد من المستثمرين إلى العقارات كوسيلة للتحوط ضد التضخم.

يعمل زعماء الصين بالفعل على توجيه عملية الانتقال إلى نموذج نمو يحركه الاستهلاك المحلي والإنتاج ذو القيمة المضافة العالية، ولكن التحديث أكثر تعقيداً من هذا، ذلك أن النموذج الجديد- بمساعدة قوى السوق كلما كان ذلك مناسبا- يسعى إلى ضمان تكوين الثروة بشكل مستدام وتقاسمها على نطاق واسع. والنجاح في هذه المهمة من شأنه أن يحقق الحلم الصيني، والفشل يعني استمرار التفاوت بين الناس في التفاقم في مختلف أنحاء العالم.

أندرو شنغ & شياو غنغ

 * شينغ زميل بارز لدى معهد فونغ العالمي، وعضو المجلس الاستشاري لبرنامج الأمم المتحدة البيئي بشأن التمويل المستدام، وشياو غنغ مدير البحوث لدى معهد فونغ العالمي.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top