هموم إعلامية مصرية
يثور في مصر الآن جدل كبير بخصوص الإعلام، وتعبر أطراف كثيرة عن اعتقادها بأن حالة الممارسة الإعلامية في ذلك البلد باتت "مزرية" و"كارثية"، رغم الاتساع الكبير الذي يشهده حجم الصناعة، وبدء تعافي المداخيل الإعلانية، والزيادة الواضحة في درجة التأثير في الرأي العام.وثمة ملاحظات يمكن تسجيلها على هامش الحالة الإعلامية المصرية الراهنة؛ منها:
أولاً: أن الجميع ناقم على الإعلام، أو يبدي النقمة عليه، ويحمله المسؤولية عن حالة الارتباك التي تعانيها مصر في الوقت الحالي، بل يتهمه أيضاً بأنه السبب في الاستقطاب الحاد الذي يسيطر على البلاد، إضافة إلى اعتباره المتسبب الأول في الاحتقان المتزايد وفقدان الاتجاه الذي يشعر به البعض.ثانياً: يعتقد قطاع كبير من الممارسين والمهتمين أن مشكلة الإعلام في مصر ترجع إلى "عدم التزام الصحافيين والإعلاميين بالمعايير المهنية" فقط، ويرى هؤلاء، نتيجة لذلك، أن حل تلك الإشكالية سهل وميسور، ويمكن تلخيصه في ثلاث كلمات فقط؛ هي: "ميثاق شرف إعلامي".ثالثاً: أن منطلقات كثيرين من المتابعين والمهتمين بالقضايا الإعلامية ليست مهنية بالأساس، لكنها منطلقات سياسية، وبتعبير أدق "أيديولوجية"؛ لذلك، فهم لا يبحثون عن "المعرفة" بالمشكلة وأبعادها وإمكانات الحل وبدائله، إنما يريدون "رأياً مهنياً" يمكن أن يعزز مواقفهم السياسية، وبالتالي ينتصر لأيديولوجيتهم.رابعاً: هناك رغبة جامحة تظهر لدى قطاعات كبيرة بين الإعلاميين والمهتمين، لاستبعاد قيم صحافية أساسية من الأطر المنظمة لممارسة المهنة؛ مثل "الحياد"، و"الموضوعية"، و"التوازن"، باعتبارها "خرافات" من وجهة نظرهم، ويجب ألا تكون محل التزام من الجماعة الصحافية والإعلامية.ودائماً ما يتمترس هؤلاء خلف سؤال كبير يقول: "أعطني مثلاً لوسيلة إعلام محايدة واحدة في العالم؟"، معتقدين أنه لا توجد إجابة عن هذا السؤال، وأن عدم وجود الإجابة معناه ببساطة أن "الحياد الإعلامي خرافة".خامساً: لا يجتهد قطاع كبير من الصحافيين والإعلاميين في محاولة تغطية الأحداث والوقائع التي تصب في اهتمامات الجمهور بشكل عميق، ويركز على محاولة فهم المعاني والرؤى ووجهات النظر المطروحة، ويفضل هذا القطاع الآخذ في الاتساع أن يركز على التناقضات الصارخة، أو المواقف الحادة، أو الأحكام القاطعة، أو "الإيفيهات" الساخرة، أو التجريح والنقد المتجاوز في حق الآخرين.سادساً: أن هناك رغبة واضحة لدى كثيرين من المتابعين والمهتمين والمعنيين بالشأن الإعلامي في استمرار أزمة الإعلام، واستمرار تحميله المسؤولية عن بقية الأزمات المجتمعية، واستمرار الشكوى من الأداء الإعلامي، دون وجود رغبة في الوصول إلى حل، أو تبني حل، أو الاستماع إلى من يطرح حلولاً.سابعاً: أن سهام النقد توجه إلى كل الأطراف المعنية بالحالة الإعلامية، وعلى رأسها طبعاً السلطة التي يتم اتهامها بقمع الإعلام ومحاولة تطويعه، والإعلاميون أنفسهم، الذين يتم اتهامهم بانتهاك القيم المهنية، عبر الممارسات الحادة التي تسعى إلى حصد الشهرة والرواج وإرضاء قطاعات من الجمهور على حساب المعايير، لكن أحداً لا يوجه اتهاماً إلى قطاعات الجمهور التي تكافئ الممارسات الحادة، عبر الإقبال عليها، ونشرها، وترويجها، خصوصاً من خلال وسائط التواصل الاجتماعي.إن العناصر السبعة السابقة تطرح تحديات خطيرة على الواقع الإعلامي والسياسي والمجتمعي في مصر، ولن يكون هناك حل، لمشكلات الإعلام، التي تمثل جزءاً من مشكلات الأداء الوطني العام من دون تجاوزها. يجب عدم الاستسلام لفكرة أن "الإعلام هو المخطئ الوحيد"، لأنه ببساطة يخطئ كما يخطئ الآخرون، كما يجب عدم تصديق أن الإعلام وحده هو سبب حالة الارتباك والخلل التي تعيشها الدولة والمجتمع في مصر، لأن تلك الحالة نتاج لأخطاء مركبة من مؤسسات الدولة وأفرادها، ولا أعتقد أن بيننا من يصدق أن إصلاح الإعلام وتطويره يمكن أن يحل مشاكلنا جميعها دفعة واحدة وفي شتى المجالات.إن اعتبار أن الإعلام هو المسؤول الوحيد عن أزمات دولة كاملة مثل مصر هو استسهال مزر؛ لأن الأزمات الإعلامية ليست سوى انعكاس لأزمات سياسية ومجتمعية أخرى، أو جزء منها في أفضل الأحوال.ومن جانب آخر، علينا ألا نهون من حجم مشكلة الإعلام، ونعتبر أن حلها سيتحقق بمجرد إصدار "ميثاق شرف"، لأن مثل هذا الميثاق ليس سوى التزام طوعي ببعض المعايير الأخلاقية والمهنية التي يرتضيها الإعلاميون لأنفسهم، كما أن هذا الميثاق لا يستطيع التأثير في الحالة الإعلامية إلا من خلال وجوده ضمن نظام إعلامي يتسم بالتكامل والمرونة والكفاءة.وفي ما يتعلق بتحليل أنماط الأداء الإعلامي المثيرة للجدل، يجدر بنا أن نهتم بتقصي الممارسات نفسها، وقياس مدى اتساقها مع المعايير المهنية أو انتهاكها لها، وليس مجرد البحث عن "موقف" ما يؤيد ما نؤيده، أو يعارض ما نعارضه.لا يجدر بنا أن نخضع الممارسات الإعلامية لرؤيتنا الأيديولوجية؛ فنسب باسم يوسف إذا هاجم مرسي الذي نؤيده، ونمدحه إذا انتقد السيسي الذي نعارضه، أو نؤيد الحكومة لأنها أغلقت القنوات المسماة "دينية" التي تعمل "ضد مصلحتنا"، ونعارض كل من ينتقد الأداء المزري لبعض القنوات الرائجة راهناً، لأنها "تدافع عن توجهاتنا".ويجب عدم استثناء الجمهور نفسه من توجيه الاتهامات بخصوص تراجع أداء الإعلام؛ فبعض قطاعات الجمهور، للأسف، تكافئ أنماط الأداء السلبية، وتمنح النجومية لبعض هؤلاء الإعلاميين الذين يسيؤون للقيم المهنية إساءة بالغة.وأخيراً، علينا أن نعرف أن الحياد ليس خرافة، خصوصا في وسائل الإعلام المملوكة للدولة، حيث يجب أن يسعى الصحافي والإعلامي للوقوف على مسافة واحدة من أطراف الحدث الذي يغطيه، حتى يستطيع أن ينقل للجمهور الأخبار التي تهمه، بأقصى درجة ممكنة من التوازن والدقة، وأن يمنح كل الأطراف المنخرطة فيها الفرص العادلة للتعبير عن آرائها.يمكن لوسائل الإعلام الخاصة أن تكون منحازة لموقف أو طرف أو حزب سياسي أو ناد رياضي معين، وسيكون التعدد كفيلاً بتقويم ذلك الانحياز، طالما أنها لا تشوه الحقائق، أو تختلق الوقائع، أو تحرض على العنف والتمييز بين المواطنين، ولا تخرق القوانين النافذة. لكن وسائل الإعلام العامة المملوكة للدولة، والتي يمولها المواطنون من أموالهم، يجب ألا تكون منحازة، وعليها أن تحرص على الحياد والتوازن في كل ممارساتها، خصوصاً خلال العمليات التنافسية مثل الانتخابات.إن قيام أفراد عديدين من عائلة ما بالسرقة لا يعني أن يسرق الآخرون، كما أن تفشي عدم الالتزام بالقانون بين أفراد مجتمع ما ليس مسوغاً لهدم القانون وعدم الاعتداد به. الحياد ليس خرافة، وإن كان لا يمكن تحقيقه بالكامل، والحياد قيمة ترتجى في الممارسة الإعلامية، وتستحق العمل من أجلها، ويكون الحساب بخصوصها متعلقاً بمدى قدرة الإعلامي أو الوسيلة على الاقتراب منها أو مدى الابتعاد عنها.وأخيراً؛ فإن مشكلة الإعلام في مصر ليست بلا حل، وحلها يكمن في ضرورة إعادة بناء النظام الإعلامي، عبر اقتراح قوانين وتشريعات جديدة، لتلبية الاستحقاقات الدستورية، وبناء توافق على تلك التشريعات، لتنقل إدارة الإعلام المصري من الهيئات البيروقراطية والسياسية والأمنية إلى هيئات فنية مستقلة على غرار ما يحدث في الدول المتقدمة الأكثر رشداً وتنظيماً.* كاتب مصري