أستاذ الفلسفة الإسلامية د. علي مبروك: الفتنة أكبر من الخروج على الحاكم

نشر في 18-07-2014 | 00:02
آخر تحديث 18-07-2014 | 00:02
No Image Caption
أكد أستاذ مساعد الفلسفة الإسلامية في كلية الآداب في جامعة القاهرة الدكتورعلي مبروك، أن حديث الفتنة هو حديث الصباح والمساء بعد ثورات الربيع العربي، وأن الفتنة الكبرى ما زالت الحدث المركزي في التاريخ الثقافي والفكري والمعرفي داخل الإسلام، مضيفاً أن تأثيرات هذا الحدث على نحو أو آخر مستمرة حتى الآن، ليس في الآثار السياسية ولكن الأهم والأخطر في الآثار الفكرية المعرفية. وتابع في حواره مع {الجريدة}، أن الفتنة الكبرى أحد الأسباب الرئيسة في ما يحدث من فتن حالية ومستقبلية في المجتمع العربي. في ما يلي نص الحوار.
متى نصف ما يحدث من صراعات أو اختلافات بأنه فتنة؟

كانت كلمة الفتنة تثار دائماً عندما يتعلق الأمر بخلاف حول السلطة. أول فتنة في الإسلام هي الفتنة الكبرى والتي حدثت بفعل اقتتال الصحابة أو المسلمين حول السلطة السياسية بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والأجدر بأن يستحقها آنذاك كخليفة رسول الله. مبدئياً، أنا ضد محاولة اختصاص الإسلام بتعريف محدد للفتنة، فمفاهيم الأخيرة وغيرها لها أبعاد ودلالات عامة، ويمكن أن يتحقق المفهوم في إطار الإسلام والمسيحية واليهودية وغيرها من الأديان.

هل تساوي الفتنة الخروج على الحاكم أم لها علاقة بالصراعات التي داخل المجتمع فقط لا غير؟

الخروج على الحاكم أحد وجوه الفتنة، لأنه بالتأكيد خروج مجموعة من المسلمين على الإمام، فمثلاً حرب {صفين} كان ينظر إليها على أنها فتنة، لأنها كانت نتيجة لخروج فريق من المسلمين على الحاكم الشرعي علي بن أبي طالب. لكن لا يمكن القول إن الخروج على الحاكم فحسب هو الفتنة، لأن الأخيرة أكبر من ذلك، وتتسع لكل ما هو أعم وأشمل منه. على سبيل المثال، الصراع بين اثنين يدعيان السلطة ووجود جمهور يؤيد هذا وجمهور يؤيد ذاك، يمكن النظر إليه على أنه فتنة. عموماً، الفتنة تدخل في كل ما يتعلق بالصراعات على السلطة والخروج على الحاكم، وادعاء البعض لنفسه بشرعية السلطة.

العنف أو الاحتراب الأهلي، هل هو دائماً نتاج فتنة؟

لم يعرف العرب ما يسمى بالاحتراب الأهلي، ولا تجد حضوراً لهذا المفهوم في الكتابات التاريخية التي أرَّخت لخلافات المسلمين قديماً. ومصطلح الثورة أيضاً ليس له وجود في الكتابات القديمة، وربما كان يُشار إليها بفعل الخروج بشكل أساسي، مثل الخروج على الحاكم أو السلطان. وما أتحدث عنه مختلف عن {الهوجة}، فهو مفهوم استخدم حديثاً ولم يكن له استخدام سابق، على الأقل في التراث المصري، قبل ما يسمى بـ{هوجة} أحمد عرابي. ولكن ربما انتشر مصطلح الهيجان قديماً وهو المصطلح الأقرب إلى مفهوم {الهوجة}. ويتسع مصطلح الفتنة في استخدامه القديم لكل ما تمت الإشارة إليه، فإنه قد يدل على الاحترابات الأهلية التي ظهرت في حروب المسلمين الأولى سواء في معركة {الجمل} أو معركة {صفين} أو حروب الإمام علي مع الخوارج. وكان المسلمون في هذه الحروب يتقاتلون في ما بينهم وليس مع خصم خارجي. ويمكن اعتبار خروج الحسين على يزيد بن معاوية بأنه نوع من أنواع الثورة، ولكن هذا الحدث أيضاً لم يُنظر إليه على أنه ثورة، لأن مفهوم الثورة حديث نسبياً ولم تكن له استخدامات في الكتابات القديمة. أما مفهوم الفتنة فقادر على أن يستوعب {الهيجانات} كافة والخروجات والاحترابات التي كانت تحدث بين المسلمين.

من وجهة نظرك، ما حجم تأثير الفتنة الكبرى على واقعنا؟

الفتنة الكبرى ليست حدثاً بسيطاً، ولهذا أرى أن تأثيراتها على نحو أو آخر مستمرة حتى الآن، ليس من ناحية الآثار السياسية فحسب ولكن الأهم والأخطر في الآثار الفكرية والمعرفية. بدأ خلاف السنة والشيعة منذ الفتنة الكبرى بين الإمام علي ومعاوية، والنتائج التي ترتبت عليه لا تنحصر في الانقسام السياسي، ولكن يمكن النظر أيضاً إلى ما جرى على أنه انقسام معرفي. ويظهر الانقسام السياسي في ما يسمى محاولة تفريغ الصراع العربي- الإسرائيلي من مضمونه ومحتواه وتحويله إلى صراع من نوع آخر سني- شيعي، بما يعني ببساطة أن أسباب احترابات القدماء وما ترتب عليها، ما زالت أحد محددات السياسة الشرق أوسطية إلى الآن. وإذا نظرنا إلى الأحداث في سورية والعراق والخليج نجد أن الفتنة القديمة ما زالت حاضرة على نحو أو آخر.

الفتنة الكبرى ليس لها تأثير سياسي فقط وإنما تأثير فكري وثقافي كما ذكرت... وضح لنا ذلك؟

في حالة الفتنة جرى استدعاء القرآن في قلب الصراع من خلال واقعة رفع المصاحف على أسنة الرماح الشهيرة، فعندما بدا وكأن جيش معاوية قد اقترب من الهزيمة كانت حيلة عمرو بن العاص أنه أشار إلى معاوية بأن يطلب من جنوده رفع المصاحف على أسنة الرماح وقول {لا حكم إلا لله}. وانطلت الحيلة على بعض من جيش علي، وأجبر الأخير فعلاً على أن يخضع لحكم الله {القرآن}. وكان للإمام موقف مختلف عبَّر عنه قائلاً إن القرآن كتاب مسطور لا ينطق بلسان وإنما ينطق عنه الرجال، ما يعني أننا إزاء علاقتين مع القرآن: الأولى هي العلاقة الأموية التي ربطت بين الإسلام والسيف، وقد أفلح القرآن في أن يأتي بالأمويين بما عجز السيف عن أن يأتي به لأن هزيمتهم كانت متوقعة لو لم يرفع المصحف على أسنة الرماح. وهذه النتيجة تعني أن الكتاب بدأ يُنظر إليه على أنه كالسيف سواء بسواء كسلطة ينبغي الخضوع لها من دون مناقشة أو سؤال. أما الإمام علي فكان يعبر عن علاقة أخرى مع القرآن، علاقة ترى أن الأخير ليس له لسان ينطق به وإنما البشر هم من ينطقون عنه بفهمه، وأن البشر ينتجون معرفتهم ووعيهم بالعالم ويتواصلون مع بعضهم البعض بالكتاب. بالنظر إلى هذه العلاقات، سنجد أنها معرفية لا سياسية، ولكنها بدأت من هذا الحدث السياسي. وبالعودة إلى نوع التعامل السائد الآن مع القرآن، نجد أننا ما زلنا نتعامل معه بوصفه سلطة ينبغي الخضوع لها ليس موضوعاً للفهم، ما يعني أننا نحكم عليه بالموت. في الحقيقة، ربط القرآن بالسلطة كان مقدمة لما سيقال بعد ذلك، فعندما رفع جنود معاوية المصاحف على أسنة الرماح كانوا يصرخون {لا حكم إلا لله}، ولكن ثمة فيالق صارخة الآن في العالم العربي ترفع أعلام القاعدة بدلاً من المصحف وتقول أيضاً {لا حكم إلا لله}.

ماذا عن العالم العربي الآن؟

كان لا بد من أن يصل العالم العربي إلى أزمة عاتية، بعد 200 سنة من محاولات التحديث المشوه ومن تبني مشروع شكلي أو صوري للنهضة، والأزمة عبرت عنها هذه الخروجات والانتفاضات والتي نسميها الربيع العربي، لكنه لم يجد حلاً للأزمة. إذاً، فإننا نقيم الربيع العربي في إطار أنه عبَّر عن أزمة قائمة فعلاً ويبدو أنها بلغت نهايتها. من ناحية أخرى، فإنه لم يكن ممهداً إلى الآن لطرح حل حقيقي للأزمة. ومن ثم فالربيع العربي ليس ثورة وليس فتنة ولكنه ثورة في طور الاكتمال.

الربيع العربي، صناعة عربية أم غربية؟

أرفض أن أقول إن الربيع العربي صناعة غربية على اعتبار أننا فعلاً في حالة ركود وعجز عن إبداع أي شيء حقيقي، ونمر بأزمة عربية شاملة. وعندما يأتي حدث ليعبر عن هذه الأزمة لا أقول إنه من صناعة الآخرين وإنما صنعته هذه الأزمة الشاملة التي تضرب واقع العرب.

ركز بعض المستشرقين دراساته على الفتنة في الإسلام... هل هذا بغرض البحث فقط أم لأهداف أخرى؟

ليست لديَّ الحساسية التي ينظر بها كثيرون إلى المستشرقين. مبدئياً، الاستشراق أيديولوجية، وشأنه شأن كثير من العلوم الإنسانية، مرهون بقدر كبير من دوافع ومحفزات أيديولوجية تعمل متخفية. وإذا أخذنا فكرة إدوارد سعيد صاحب الكتاب المشهور «الاستشراق»، سنجد أن الاستشراق ليس مرتبطاً بالمعرفة غالباً، وإن كان مشغولاً بالمعرفة فإنه يأتي انطلاقاً من مقولة المعرفة سيطرة وقوة وبوصفها مدخلاً إلى السيطرة وليست المعرفة البريئة المحايدة، فإذا أردت فهم الغرب فإنك تعرفه بغرض أن تصل في وقت ما إلى تجاوزه والسيطرة عليه، فلا توجد معرفة لمجرد المعرفة فحسب، ولو قارنت الدراسات الغربية بالدراسات لدينا ستجد أن دراسات الغرب علمية أكثر .

كيف رأى المؤرخون الفتنة؟

بالعودة إلى التراث الإسلامي، نجد نوعين في التعامل مع الفتنة: تيار المؤرخين والإخباريين من جهة وتيار الأصوليين أو المتكلمين من جهة أخرى. يهتم التيار الأول بالروايات ويحاول أن يقدم، إلى حد كبير، صورة قريبة إلى الواقع، لذلك عندما تقرأ وقائع الفتنة الكبرى في أعمال المؤرخين، مثل الطبري أو ابن خلدون، ستجد سرداً للتفاصيل والأحداث بحذافيرها. لكن بالنسبة إلى أعمال الأصوليين فالوضع مختلف لدرجة أن بعضهم ينكر وقوع الفتنة الكبرى، لأنه لا يستطيع ربط تلك الحقبة بالأحداث التي حصلت فيها كونها بالنسبة إليه حقبة مثالية نموذجية. ويقول بعضهم إن الأحداث آنذاك كانت اجتهاداً، وجميعهم كانوا على حق، وإذا كان ثمة مخطئ فليس في مقدور أحد أن يعينه لأنه غير معروف. نحن أبناء الثقافة التي ترى أن هؤلاء الصحابة كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم مثلما قال الرسول (ص)، عندما نقرأ النصوص الاستشراقية المعتمدة على الرواية التاريخية الإسلامية القديمة نستنكرها لأنها لم تقدم جديداً، بل مضمونها مذكور في التاريخ، ولكن أصحابها بلغوا الرواية أو رتبوها.

لماذا نجد توصيفات لبعض المؤرخين قديماً لأي حركة اجتماعية معارضة على أنها أحد أنواع الفتنة؟

لم يرتبط ذلك بالمؤرخين دائماً، ولكن بالأصوليين أكثر. المشكلة لدينا أن ثمة مؤرخين كانوا في الوقت نفسه أصوليين، مثل أبو جعفر الطبري وابن كثير، فنظرا إلى كل خروج عن السلطة أو الحاكم بأنه فتنة، وأصبحت هذه العادة تروج للقول «حاكم غشوم خير من فتنة تدوم». وظهر التأصيل الفقهي للملك الغشوم في قول البعض «إن الحكم لمن غلب»، وإن الحكم لصاحب الشوكة وطاعته واجبة ما دام لم يمنع المسلمين الصلاة، فإذا منعهم وجب قتاله، وهي الحالة الوحيدة التي يجيز فيها فقهاء السلطة الخروج على السلطان، فيصبح الحاكم، مهما وصل إلى طغيان، أرحم من الفتنة. ولكن وجود هذا النوع من الحاكم الغشوم ألن يكون سبباً في الفتنة؟

هل حصر السلفيون الفتنة في المال والنساء؟

أعتقد أن هذا هو الأمر المعلن بالنسبة إليهم، أضف إلى ذلك السلطة. أعتقد أن بعض الأحداث في مصر سببها بعض السلفيين الذين كانوا أعضاء في مجلس الشعب عام 2012 وأفعالهم غير المحمودة. أما إعلانهم بأن الفتنة تنحصر في النساء والمال، هذا مجرد قول في الظاهر، أما في الباطن فالله أعلم بهم، وإن كانت ظواهر الأمور تقول إنهم في الباطن مشغولون بذلك انشغالاً كبيراً.

لماذا يصف علماء الدين التقليديون أي محاولة للتجديد على أنها فتنة؟

 

يذكرنا هذا الأمر بقول الكندي القديم «إن هؤلاء يتاجرون بالدين»، ولأنهم يوظفون الدين في خدمة أهدافهم التي تتعلق بالمكاسب المادية بشكل أو بآخر. أظن أن هؤلاء يضرهم كثيراً لو استمر الدين على صورته التقليدية من دون تجديد أو تغيير أو فهم جديد يمكن معه أن تبور بضاعتهم، فظهور فهم جديد للناس ومختلف عما يقدمه هؤلاء أظن أنهم سيخسرون، لأن ما يملكونه من بضاعة لن تجد من يشتريها، ما يعني ضياع مكانتهم الدينية والدنيوية وهم لن يسمحوا بذلك.

في سطور

الدكتور علي مبروك، أستاذ مساعد في الفلسفة الإسلامية في كلية آداب جامعة القاهرة. من مواليد القاهرة عام 1960، حاصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة، له كتب كثيرة، من بينها، «ثورات العرب... خطابات التأسيس، لعبة الحداثة بين الجنرال والباشا، الخطاب السياسي الأشعري نحو قراءة مغيرة، ما وراء تأسيس الأصول، النبوة من علم العقائد إلى فلسفة التاريخ». وقيد الطبع كتاب «نصوص حول القرآن في السعي وراء القرآن الحي»، وكتاب قيد الطبع بعنوان «القرآن والصراع على المعنى».

back to top