عبد العظيم فنجان في «كيف تفوز بوردة؟!»
عطرُ الألم بوصلتُه إلى وردة القصيدة
عندما يتجوّف الواقع، وتُفرغه الفجيعة من ذاته، يتلاشى الزمان والمكان، وينسحب الناس من رواية الحياة لأنّهم لا يستطيعون أن يكونوا أبطالها... أمّا الشعراء فيحملون كيس الأسطورة بأطراف عصيِّهم، ويبحرون في مراكب تنسج أشرعتها على نَوْل الماضي البعيد، بحثاً عن قصيدة تكون بدلاً من ضائع للحاضر المغيَّب ويداً تلوِّح بمنديل الحلم، ولو بخجل، لغدٍ آتٍ أملاً أن يعيد صياغة رواية الحياة.
في جديده «كيف تفوز بوردة؟» يرتاح الشاعر العراقي عبد العظيم فنجان على عرش حزين صنعه من غيمة بيضاء، مرّت منذ آلاف السنين في فضاء الذاكرة العراقية، وهي تعبق بعطر الخرافة التي تعطي فرحاً لا تتّسع له كفّ الحقيقة. الخرافة الجميلة، الواضحة دون احتمال التأويل، القادرة على أن تكون أمّاً لتاريخ سوف يأتي خارجاً من رحمها، وفي عينيه خصوبة المعنى في عيون الأنبياء.تعدّد الدلالات في الـ{إهداء» يعلن فنجان أنّ وردته: «رمز لتعدّد الدلالات: يشتمل التجربة المركّبة، والخسارة الشاملة في الحبّ، في الوطن، في الصداقة»، ولمواجهة هذه الخسارة الوجوديّة التي تحرم الإنسان من الإقامة في الحجر وفي البشر في آنٍ واحد، لا بدّ من أن يكون العطر بوصلة وحيدة للوصول إلى الوردة: «لا أمل سوى ممارسة هذه الهواية الحزينة: مطاردة الرحيق بغية العثور على الوردة، وردتنا التي لم تولد بعد، في حديقة الكتابة». لا يسعى فنجان إلى رؤية ذاته منفصلاً عن الإنسان الشاهق الذي ناضل منذ البدء متحدّياً الطبيعة، منتمياً إلى آلهتها، ناشداً الحياة بكلّ ما فيها من ألم وتوق وبياض جريح. لذلك وسّع مرآته رغبة في أن تحتضن فضّتها وجهه المتعدّد. فهو دُعي إلى مائدة العشب مع الحيوان، وأخذ منه البرق سجوداً، وتنازل عن وجهه للوح طين، «عشت في الكهوف، وأكلت العشب مع الحيوان في البراري، ارتعشت من البرد. وسجدت للبرق.../ وعثروا على وجهي في ألواح الطين، عندما رسمتُ محبوبتي على جلد الزمن»... نعم، إنّ الشاعر يردم هوّة الواقع بحجارة ناصعة، ملتهبة، يأتي بها من مقلع الذاكرة القديمة التي تشيب ولا تهرم، تموت وتُبعث حيّة، وهذه الذاكرة لا يفصلها فنجان عن الحاضر، إذ إنّ «زوربا» و{بوذا» لم يستأصلا «صوفيا لورين» من رغبته، إنّما هي قد تكون دعوة ملحّة لإحيائهما في سياق رغبة متعدّدة تحتضن الماضي والحاضر: «رقصت كثيراً مع زوربا، وجلست طويلاً تحت شجرة بوذا، طفت مع عرفاء ومتصوّفة، وطرت في الهواء مع المجانين، لكنّ صوفيا لورين أغوتني في الظلام فقفزت إلى الشاشة»... امرأة أسطورة ويلوذ فنجان بالحبّ، ربّما كي يتّقي عقله المسمّي الأشياء بأسمائها المفجعة، وقد يكون هذا الحبّ مجذِّفاً نحو امرأة من لحم ودم تنبت بين أضلاعها عشبة العاطفة، أو نحو امرأة ملتبسة، لا يدلّ عليها سوى ضمير المخاطبة، وهذه المرأة ترتدي فستاناً من خزانة الأسطورة وتعتمر قبّعة منسوجة من بخور سامريّ، وهي وإن كانت امرأة للجميع ففنجان يشعر بأنّها منسيّة وبأنّه رجلُها الوحيد.أمومة غائبةوعلى سبيل المثال، إنّ المرأة الساكنة نصّ «بدون رأس»، تبدو مغطية كتفيها بشال الحقيقة، والشاعر يلجأ إليها كي لا يفترسه وحش الرغبة، ويبحث فيها عن أمومة غائبة ووطن غائب وأصدقاء غائبين: «أفكّر في العشب تحت إبطيكِ، في طعم الملح.../ دفنتُ رأسي في صدرك، الذي خفقت أجراسه بعنف / بحثاً عن أمّي المفقودة، عن وطني، عن بيت وعن صديق»... أمّا في نصّ «ظلّ»، فالقارئ يحمل قنديله ليقطف بنوره الوجه المقصود أو ليرى ظلّ امرأة ما على بساط القصيدة: «تحت كلّ شجرة لكِ ظلّ / يأوي إليه من تعب من البحث عنك / دون أن يعرف / المعرفة ألم لا يطاق». ويكبر الالتباس شيئاً فشيئاً، كما في نصّ «يفكّرون مثل شجرة»، فالعاشق هو بصيغة الجمع بينما المخاطبة تبقى بلغة المفرد: «عادوا خائبين، فوجدوكِ وحيدة، وقد تفرّق عنك عشّاقك الألف: مهجورة كنتِ مثل شجرة ذابلة.../ فقد كانوا يحبّونك ذابلة أصلاً». فهل هذه المرأة تخصّ الشاعر وحده؟ أم هي قضيّة وأرض؟ ولا عجب في هذا الالتباس، فطالما كان للمرأة مثلما للأرض شهداء، والاثنتان تصلحان وطناً. وفي الانتقال من نصّ إلى آخر يتكثّف حضور المرأة، المرأة الواضحة، التي سجنت آدم في تفّاحة، كان جسدها القصيدة الأولى، وما قاله آدم القصيدة التي تلي: «أحبّ عريكِ في قديم الصباحات، حين كان العالم صالحاً للعيش، عندما أشرقتِ تجلّيتِ بهيئة تفّاحة. / آه / تفّاحتكِ التي أكلتني»... ويأتي نصّ «أسطورة الجندي والمرأة العارية» ليقول، وإن بلغة رمزيّة، وجع فنجان. فأنثى الشاعر ملاحقة من عيون الجنود الهاربين، بينما هي ترتدي عراءها وتسبح، إلاّ أنّها احترفَتِ الغرق في أعماق الوجود كلّه، وخذلها الجنود الذين تعرّوا ونزلوا إلى الماء، ولم يعثر عليها سوى واحد، لأنّه عرف أنّ الذي يريد القبض على سرّ الماء فلن يستطيعه إلاّ غريقاً، وكم يشبه هذا الغريق الشاعر الناشد وردته على امتداد الزمان والمكان: «خلع الجنود ملابسهم، وتركوا خوذهم معلّقة على أغصان الأشجار.../ عادوا مغسولين بالدموع.../ هناك ملابس مهملة تحت شجرة، وخوذة وحيدة بقيت وحدها.../ من جوفها كلّ صباح تنبثق وردة، وتسقط على الملابس في الغروب./ خوذة الغريق الذي وجدكِ». ويستبدّ الألم بفنجان وصولاً إلى خاتمة كتابه: «مرثيّة إلى بغداد من شاعر سومري في مساحة الميدان». وهو في هذا النصّ لاجئ إلى منفى الوحدة، لا سيجارة تحمل على دخانها دوائر همومه، ولا فلس في جيبه يقايضه برغيف. وليس فيه سوى نسر جائع أسوار الكلام حرام على جناحيه، وما من فريسة يُمضي معها بعض ثرثرة، والشّعر يتحوّل عشّه على أغصان شيخوخة صاحبه وكراً للألم: «وحدي في ساحة الميدان، بلا سجائر أو نقود، مثل نسر جائع: ممنوع من التحليق حول أسوار الكلام. أبحث عن فريسة أثرثر معها.../ فالشِّعر... مرض كلّما تقدّم بنا العمر صار وكراً لألم لا يطاق»... وأمام محنة بغداد في القصيدة ومحنة القصيدة في بغداد، يعلن الشاعر أن للمال والخمر يداً سحرية تنظف المدينة من أشلاء الفراغ: وظلال الفجيعة، ليصير الوقت رجلاً لا تملأه سوى عشتار: «لا نقود، لا خمر لأحسم هذه المسألة: الساحة تقفر والباعة يعودون من شارع المتنبّي متأبّطين خواطر مفخّخة.../ فيما الساعة تشير إلى عشتار: تنظر إليّ من الشرفة وأنا أتسكّع وحيداً: بيدي دمعة هي كلّ ما أملك من زاد لقطع المسافة التي تفصلني عن الصباح»... يثبت الشاعر العراقي عبد العظيم فنجان من خلال «كيف تفوز بوردة؟» أنّه خبير عتيق في استثمار الرمزيّة الشعريّة ببساطة توحي بالسهولة، إلاّ أنّها بنتُ صناعة لا يأتيها غير نحّاتي الحبر المحوِّلين أقلامهم أزاميل مبدعة.