يقل عدد الأشخاص الذين أرهقوا أجسامهم بقدر ما فعل رئيس الطهاة سيموس مولن من مانهاتن. مولن هو العقل المدبر وراء المطعم الساحر «تيرتوليا» (Tertulia) في مانهاتن ومستخدم دائم لموقع شبكة الغذاء (Food Network)، وقد واجه أنواع المشاكل كافة. أصيب بحمى الضنك خلال رحلة جبلية بالدراجات الهوائية في أنحاء كوستاريكا. كذلك  تعرض لهجوم من وطواط شرس حين كان يطهو في كوخ في أدغال فنزويلا، فنُقل بالمروحية فوراً إلى أقرب مستشفى. ثم خاض رحلة شاقة على الدراجة طوال خمسة أشهر، وقطع مسافة 11 ألف ميل من سان فرانسيسكو إلى باناما ذهاباً وإياباً، وشارك في سباقات للدراجات ورحلات جبلية ومغامرات متنوعة أخرى، ولا ننسى أنه عمل طوال سنوات، بمعدل 90 ساعة في الأسبوع، في مطابخ أفخم المطاعم حول العالم.

Ad

ولا يقتصر الأمر على ذلك.

بعد إنهاء رحلته إلى باناما، استقر مولن في نيويورك. في إحدى الأمسيات من عام 2002، كان يقود دراجة نارية فوق جسر بروكلين، فاصطدمت به شاحنة صغيرة من الخلف وكسرت إحدى ساقيه، فخضع لإعادة تأهيل طوال سنة. نجح مولن في العودة إلى العمل في مجال الطبخ، أولاً في نيويوك ثم في إسبانيا، قبل أن يعود إلى نيويورك مجدداً حيث فتح أول مطعم له (2006) حمل اسم {بوكيريا} (Boqueria). كان النجاح فورياً واكتسب مولن سمعة ممتازة باعتباره مترجماً عالي المستوى للمطبخ الإسباني الريفي.

محاربة بالغذاء

بعد فترة قصيرة من افتتاح مطعم «بوكيريا»، بدأ مولن يشعر بأوجاع غامضة وكأنّ سكيناً ساخنة تطعن كتفه، كما يقول. في أحد الأيام، زاد الألم وبات لا يُحتمل، وكان صراخ مولن مرعباً لدرجة أن جاره اتصل برقم الطوارئ. استيقظ مولن لاحقاً في المستشفى. شُخّص لديه التهاب المفاصل الروماتويدي، مرض غير قابل للشفاء، إذ يسبب التهاباً مزمناً في جهاز المناعة وألماً في المفاصل ويشلّ الحركة. لكن مولن أصر على المضي قدماً بفضل نظام يشمل مضادات التهاب قوية، إلا أنه لم يعد يستطيع ممارسة الرياضة وسرعان ما اكتسب 18 كيلوغراماً إضافياً.

ثم في 2009، بعد فترة قصيرة من سفره إلى طوكيو للمنافسة في مسابقة {رئيس الطهاة الحديدي}، انهار مولن في مطبخ {بوكيريا}. بدا كأنه أصيب بنوبة قلبية خطيرة. رصد مسحاً عاجلاً بالتصوير المقطعي، انسدادات مختلفة أو جلطات دم موزعة في أنحاء جسمه. كانت رئتاه تمتلئان بالدم بسرعة فائقة لدرجة أنه كاد يختنق.

أنقذ الأطباء حياة مولن عبر تفريغ رئتيه. لكنه بقي في المستشفى طوال 10 أيام وخضع لعلاج بأدوية تسييل الدم خلال السنة والنصف اللاحقة. حين بدأ مولن يتعافى ببطء، نظر إلى نفسه في المرآة ولاحظ أنه لم يعد الرجل الرياضي الذي كان عليه. فلم يحبّ ما شاهده وتعهد بأن يستعيد صحته بأي ثمن. سرعان ما سينجح بتحقيق غايته من خلال القيام بأكثر ما يبرع فيه: الطبخ.

بدأ مولن يغوص في الكتب التي أصدرها مايكل بولان واختصاصية التغذية ماريون نستله وخبير السرطان ديفيد سيرفان شرايبر. فاقتنع في النهاية بأن الالتهاب المنهجي (أي القوة الدافعة وراء التهاب المفاصل الروماتويدي، فضلاً عن أمراض القلب والسكري وحتى أشكال متعددة من السرطان) يمكن محاربته بالغذاء. يبدو أن الحلّ يكمن في تجنب المأكولات المصنعة والتركيز على المأكولات الصحية التقليدية. يوضح مولن: {بدأتُ أدوّن ملاحظات عن المأكولات المهمة بالنسبة إلى أطباقي. واكتشفت أن عدداً كبيراً من الأغذية سيفيدني. كان السر الذي يضمن تحسن حالتي بين يديّ}.

حمى غامضة

سنة 2012، حين كان مسافراً إلى تايلاند، أصيب مولن بنوبة ألم حادة أثناء وجوده في مطعم. بعد بضعة أسابيع، عاد إلى نيويورك وأصيب بحمى غامضة وبلغت حرارته 41 درجة مئوية. ثم أمضى أسبوعاً مريعاً وهو يخضع لمغاطس ثلج وجلسات البزل القطني قبل أن ينصحه صديقه باستشارة فرانك ليبمان، اختصاصي في الطب الوظيفي والتكاملي.

اشتبه ليبمان بإصابة مولن باضطرابات معوية، أو كما يقول مولن {عاش في داخلي غزاة من دون أن يدفعوا الإيجار}.

أثبت تنظير القولون هذه النتيجة بالذات: كانت مستعمرة صغيرة من الديدان تعيش بين هياكل مخاطية بلورية وقد تطلّب تطورها سنوات عدة. يظن مولن أنه احتكّ بتلك الديدان للمرة الأولى خلال رحلته الطويلة إلى باناما في 2001. كان يمكن أن يغلب جسمه الديدان تلقائياً لولا حادث الدراجة النارية بعد عودته إلى الولايات المتحدة بفترة قصيرة. يظن مولن أن نضاله للتعافي من إصاباته أحبط جهاز مناعته بما يكفي لدرجة أن الديدان ترسخت في الجسم سريعاً: «في نهاية المطاف، بدأت تأكل وتتغوط في أمعائي خلال السنوات العشر اللاحقة. حتى أنها ثقبت جدار أمعائي فوصلت قذارة تلك الديدان إلى مجرى دمي».

في السنة الماضية، وصف له ليبمان مضادات حيوية وأدوية مضادة للطفيليات، وسرعان ما نجحت تلك العلاجات في التخلص من الديدان. يقول مولن: {استيقظتُ في صباح أحد الأيام من شهر مايو وشعرتُ بالتحسن}.

لا تتقبلوا وضعكم

اليوم، يبدو مولن (40 عاماً) مصمماً على استعادة قدرته الرياضية التي كان يتمتع بها في شبابه. هذا ما دفعه إلى إدراك أهمية العناية اليومية (الأكل الصحي، الحد من الضغط النفسي، ممارسة الرياضة، تخصيص وقت كافٍ للراحة، إبقاء جهاز المناعة في ذروة أدائه). لقد فتح حديثاً مطعماً ثانياً يحمل اسم {إلكولمادو}. لكنه مصمّم هذه المرة على العمل ساعات معقولة.

حين عدنا إلى هونغ كونغ، اصطحبني مولن إلى مطعم صغير متخصص بأصناف غريبة جداً مثل حساء علاجي بالأفاعي. وصل طبق مولن: إنه طبق خزفي أبيض مع شرائح رمادية داكنة من لحم الأفاعي في سائل شاحب يميل إلى الرمادي. فسأل عن نوع الأفاعي المستعملة.

أجابت ابنة صاحب المطعم: {خمسة أنواع}.

فسأل سيموس: {أليست سامة؟}.

أجابت: {نوع واحد منها سام لكنّ هذا الطبق هو أفضل ما يمكن تناوله. إنه مفيد دوماً للشفاء. ويساعدك على إطالة حياتك}.

التهم مولن الوعاء كله ثم قال: {ليس سيئاً أبداً}. ثم بدأ يتحدث مع النادلة عما يعتبره السكان المحليون طعاماً صحياً.

تشير أحدث فحوصات الدم إلى أن مقاربة مولن الجديدة فاعلة. يبدو أن التهاب المفاصل الروماتويدي تبخر بالكامل. كما أنه كان يجرّب {حمية كيتوجينيك} (تشبه حمية {أتكينز} التي ترتكز على المواد الستيرويدية مع كمية من الدهون الحيوانية والخضار الطازجة لكن من دون مأكولات غنية بالحبوب أو السكر). لقد نجح أخيراً في تخفيض الوزن الذي كسبه حين كان في الثلاثينيات من عمره، ويشمل وزنه الآن 14% من دهون الجسم، وتشبه مستويات الكولسترول في جسمه تلك التي يسجلها رجل أصغر منه بعشرين سنة. حتى أنه عاد يتدرب للمشاركة في سباق جبلي بالدراجات لمسافة 200 ميل في كوستاريكا، وستشمل المسابقة منافسين من المحيط الهادئ إلى الكاريبي. يقول مولن: {لا تتقبلوا وضعكم مطلقاً! هذه نصيحتي الكبرى. اقتنعتُ بذلك منذ فترة طويلة فأصبح المرض مجرد مرحلة عابرة من حياتي. من المدهش أن ندرك أن تلك القوة كانت في داخلنا طوال الوقت}.

الغذاء البطل

أعدّ مولن لوائح تشمل مراجع عن أبرز الأغذية المضادة للالتهاب مع المكونات الأساسية في المطبخ الإسباني، ثم طوّر حمية شخصية جديدة ترتكز على الدهون الصحية الموجودة في لحم البقر والغنم الذي ينشأ في المراعي، الكائنات الحية الدقيقة المفيدة في الأجبان الأوروبية المعتّقة، مضادات الأكسدة الموجودة في الخضروات الموسمية الطازجة، زيت الزيتون الصافي، وعناصر الأوميغا 3 الموجودة في الأسماك الزيتية الصغيرة مثل الأنشوفة والسردين.

بعد بضعة أشهر على اتباع هذا النظام الغذائي، تراجع الألم المزمن وبدأ مولن يخسر الوزن. كما أنه بدأ يعيد النظر بجوانب أخرى من حياته: شراكات العمل المجهدة لساعات طويلة وتراجع الوقت المخصص للخطط الصحية. فاستقال من مطعم {بوكيريا}. لم تكن صحته مثالية بأي شكل، لكنه كان يتمتع بقوة كافية لفتح مطعم {تيرتوليا} (2011). بعد سنة، نشر كتاب {الغذاء البطل لسيموس مولن: كيف يحسّن الطبخ بمكونات لذيذة حالتنا} (Seamus Mullen›s Hero Food: How Cooking with Delicious Things Can Make Us Feel Better)، وهو أحد أفضل كتب الطبخ المتعارف عليها في عام 2012.

منذ فترة قصيرة، وجد مولن نفسه على طاولة الفحص في هونغ كونغ. وكانت سبع إبر مغروزة في مؤخرته. هدف هذا العلاج إلى تعزيز تدفق الدم حول مفصل الورك الذي كان مصاباً بالتهاب مزمن.

تقيم عائلة لين، زوجة مولن، في تايوان، وكان مولن يزور هونغ كونغ منذ سنوات. لكن كانت هذه الزيارة مختلفة: خصص مولن وقته لاستكشاف التاي تشي وحفل الشاي الصيني، ولا سيما المطبخ الصيني العلاجي حيث يُقال إن أطباقاً مثل حساء لسان الخنزير وهلام صدفة السلحفاة تنجح بإقامة توازن بين الطاقات المتضاربة داخل الجسم. أوضح مولن: {أنجذب إلى الطريقة الصينية في مقاربة ومعالجة الجسم باعتباره نظاماً متكاملاً يمكن أن نبقيه سليماً وصحياً عبر الاعتناء المنتظم به، بينما تكتفي الطريقة الغربية بالانتظار حتى وقوع المشكلة قبل معالجة العوارض}.