سيرة أخرى لفارس عربي آخر، صنعت منه الحكاية الشعبية صورة مثالية عليا للبطل العربي الذي يظهر دائماً، ولحسن الحظ، في الأزمنة السوداء، في لحظات الضعف والهزيمة، في الانتكاسات التي تعقب المجاعات، حيث القفار شاسعة دائماً على الفقراء.

Ad

يواجه البطل هذه المرة حاكماً عربياً ظالماً، يطمع في ملك جيرانه، يريد أن يسبي نساءهم ويأخذ خيراتهم، لا عن فاقة وعوز، بل عن تجبر وطغيان، البطل من {بني قيس}، وهم بحسب السيرة من سادات العرب، والعدو حاكم عربي طاغية، في بلاد اليمن، علم أن نساء بني قيس أجمل نساء العرب، فأرسل في طلب {الجليلة} لتكون زوجته بالقوة، ليخطفها من حبيبها وابن عمها {كليب}، فهل يسكت البطل العربي أمام هذا الظلم ويستسلم، أم يقاوم ويبتكر وسيلة لإنقاذ حبيبته ووطنه؟ ليستلم منه أخوه {الزير سالم} الراية من بعده؟

بدءاً من اليوم، تنشر {الجريدة} مقتطفاتٍ من سيرة {الزير سالم}، الفارس الكرار والبطل المغوار، الذي شاع ذكره في الأقطار، وأذلّ بسيفه كل جبار، {المهلهل بن ربيعة}، صاحب الأشعار البديعة، والوقائع المريعة.

قال الراوي: {أصل العرب من قديم الزمان، هم أولاد {نزار بن معد بن عدنان}، وكان قد ولد لنزار أربعة أولاد من الذكور، كل منهم بالفضل والبأس مشهور، وهم: {مُضر} و{أنمار} و{إياد} و{ربيعة} فارس الطراد، ومنهم تشعَّبت قبائل الأعراب.

من نسل {إياد} ملوك التبابعة، ومن نسل {ربيعة} و{مُضر} و{أنمار}، عُرف {الحجاز} و{نجد} و{العراق} وسكان القفار، وكان العرب في تلك الأزمان منقسمين إلى قسمين: {يمن}، وهم اليمنيون، و{قيس} وهم باقي العربان، القيسيون،

وما زال العرب يتكاثرون ويمتدون في البر الأقفر، حتى اشتهرت العشائر والقبائل وظهر الأمير {ربيعة} وأخوه {مرة} وأبناء {وائل}، وربيعة المذكور، هو أبو {الزير}، الفارس المشهور، صاحب هذه السيرة، ووقائعها الشهيرة}.

تابع الراوي: {كان ربيعة في ذلك الزمان، من جملة ملوك العربان، وكان أخوه {مرة} من الأمراء والأعيان، وكانت منازلهم في أطراف بلاد الشام، يحكمان على قبيلتين من العرب وهما {بكر} و{تغلب}، وولد لربيعة خمسة وهم: {كليب} الأسد الكرار و{سالم} البطل الشهير الملقب بالزير، و{عدي} و{درعيان}، وغيرهم من شجعان، وكانت له بنت جميلة الطباع شديدة الباع تعارك الأسود والسباع، تلقب بـ {ضباع}.

 أما الأمير {مرة}، فله أولاد عدة، اشتهروا بالشجاعة وقوة البأس، من بينهم {همام} و{سلطان} و{جساس}، وله بنت جميلة فاضلة نبيلة، يُقال لها {الجليلة}، فاتفق في بعض الأيام أن الأمير {مرة} دخل على أخيه {ربيعة} في الخيام وخطب ابنته {ضباع} لابنه {همام}.

ثم باشر القومُ بأمرِ العرس، وعقدوا عقد الأمير {همام} على {ضباع} بنت الكرام، كما جرت عادة الملوك العظام، فأولموا الولائم وذبحوا الذبائح وأطعموا كل آت ورائح، وما زالوا في سرور وأفراح وبسط وانشراح وطبول ولعب خيول، مدة عشرة أيام، ثم زفوا ضباع على همام فكانت ليلة عظيمة لم يسمع بمثلها في الأيام القديمة، ثم أنجبا ولدين هما: {شيبون وشيبان}.

هذا ما كان من خبر {بني قيس} المدعوِّين بـ {القيسية}، أما ما كان من أمر {اليمنية}، فقد كان في قديم الزمان، في بلاد اليمن ملك عظيم الشأن، صاحب جند وأعوان وأبطال وفرسان، يُقال له الملك {حسان} ويكنى بـ {التبع اليماني}، ولم يكن له بين الملوك ثانٍ، وهو أوَّل اليمنية، مثلما كان {ربيعة} أوّل {القيسية}.

وكان الملك {حسان اليماني} شديد البأس قوي المراس، طويل القامة عريض الهامة، لا يعرف الحلال من الحرام، ولا يحفظ العهد والزمام، وكان يحب النساء الملاح والمزاح معهن، وكان في كل ليلة يتزوج صبية من بنات الملوك والسادات، وكان الملوك يخافونه، ويحملون له الخراج، وكان عنده من الأبطال والفرسان ألف ألف، مستعدين للحرب والغارات.

وكان الملك {حسان}، لا يبالي في الأهوال والأخطار، وله وزير عاقل اسمه {نبهان}، كان كثيراً ما ينهيه عن ارتكاب الظلم والعدوان، وذات مرة سأل الملك حسان وزيره العاقل عن العرب القيسيين، فامتدحهم الوزير مدحاً، وقال إنهم أشد بأساً من العرب اليمنيين، فلما سمع {حسان} هذا الكلام تأثر، وكان عليه أشد من ضرب السيف الأبتر، فصاح بالوزير وزعق، وقرر أن يقود فرسانه في المعارك، ويقتل ملكهم {ربيعة}.

ثم أنشد الملك {حسان} على مسامع الأمراء هذه الأبيات:

يقول التبع اليمني المسمى

بحسان فما للقول زورا

ملكتُ الأرضَ غصباَ واقتداراً

وصرتُ على ملوك الأرض سوراً

وطاعتني الممالك والقبائل

شديد البأس خبيراً جسوراً

وقالوا إنه يدعي ربيعة

أمير قد حوى مدناً ودورا

تولى الأرض في طول وعرض

فكم أخرب وكم شيد قصوراً

 فقصدي اليوم أغزوه بجيشي

وأترك أرضه قفراً وبوراً

أيا نبهان اجمع لي العساكر

فيأتوا فوق خيل كالنسورا

وجهَّز ألف مركب يا وزيري

وأوسقهن في وسط البحورا

ويغنم عسكري منهم مكاسب

وأزواجهم بنات كما البدورا

ويبقى لي الحكم براً وبحراً

ويصفى خاطري بعد الكدورا

فلما فرغ الملك {حسان} من شعره، صرخ الأمراء وأكابر القواد والجيوش والعساكر والأجناد، ودعوا له بالنصر، وكان الملك قبل خروجه من الأوطان، قد سلم زمام مُلك اليمن إلى {الصحصاح بن حسان}.

زحف إلى {ربيعة}

 في الصباح أمر الملك {حسان} الملوك العشرة العظام، الذين معه، أن يتأهبوا للرحيل إلى بلاد الشام، وأن ينقسموا إلى قسمين ويتفرقوا إلى فرقتين: خمسة تسير من اليمين وخمسة من الشمال، وأوصاهم أنهم كلما أقبلوا على مدينة تملكوها في الحال، فكانوا كلما وصلوا إلى مدينة أو بلد امتلكوها بحد السيف المهند حتى ملكوا أكثر البلاد وأطاعهم العباد، وما زال الملك {حسان بن التبع اليماني} يتقدم حتى أقبل إلى مدينة الشام فأحاط بها من جميع الجوانب بالمواكب والكتائب.

 وكان نائب الملك {ربيعة} في دمشق الشام، يدعى {يزيد بن علام}، وكان {ربيعة} وأخوه {مرة} في وادي الأنعمين، وهو مكان بعيد عن المدينة مسافة يومين، فأرسل الملك {تبع} إلى نائب الملك {ربيعة} أحد الوزراء العمد، يطلب منه الخضوع لأمره.

فلما وصل إليه ودخل عليه وأعلمه بالخبر وما قال {تبع اليماني} وأمره، أجاب: {بالسمع والطاعة} ونهض مسرعاً في تلك الساعة، وأخذ الأموال والذخائر وخرج في جماعة من الأكابر حتى التقى {تبع} في الخيام، فحياه بالسلام، فقال: {تبع هل أنت حاكم الشام؟} قال: {نعم أيها الملك الهمام}، فسأل عن حكم ربيعة، فقال له: {ظالم على قومه وكل الرعايا يشكون من ظلمه، ويتمنون له الأذى والضرر والموت الأحمر، والحمد لله رب البرية الذي أعاننا بك حتى نتخلص من نير العبودية}.

قال الراوي: {وافق الوزير الملك، تحت وطأة الخوف والفزع، فتبسم {حسان} من هذا الكلام، وقال: {أبشر ببلوغ المرام، فإنك ستكون نائبي في بلاد الشام، وتحمل لي الخراج، في كل عام}، ثم عرض نائب {ربيعة} الذخائر ونفيس الجواهر، فانشرح صدر الملك {حسان} وخلع عليه الخلع وقال: {اذهب الآن إلى أهل المدينة وباشر الضيافات والزينة فإننا سنحضر إلى عندك بعد ثلاثة أيام ونتفرج على الشام ثم نرجع إلى المضارب والخيام}.

شتقُ {ربيعة}

وأما ما كان من {ربيعة} وبني قيس الأخيار، فإنهم لما سمعوا بقدوم الملك {تبع} إلى الديار وافتتاحه المدن والأمصار، أخذهم القلق والافتكار، وكان قد بلغ ربيعة قول زيد للملك {حسان} عن الظلم وعدوان {ربيعة}، مع أنه كان أكثر ملوك الزمان عدلا، أخذه الغضب والقلق وزاد به الحنق، فجمع أكابر قومه وأخيه {مرة}، فقالوا له: {هذا الأمر لا يطاق وعلقم مر المذاق وليس لنا غير الهزيمة}.

 بعد مجادلات استقر رأي الجمهور على أن يذهبوا إلى الملك {اليماني}، ويقبلوا يديه ويطلبوا لأنفسهم الأمان ويقدموا له التحف الحسان لعلهم يتخلصون من تلك الورطة الوبيلة.

 وأما ما كان من أمر الملك {حسان}، فإنه في اليوم الثالث ركب في وجوه قومه وتوجه إلى مدينة الشام للزيارة، فلما بلغ الغاية، ووصل السرايا، التقاه زيد بالتعظيم والإكرام، وصنع له وليمة عظيمة، فأحسن الملك إليه وخلع عليه وفرق التحف الثمينة على أكابر أهل المدينة، وبعدها رجع إلى المضارب والخيام وهو مسرور الفؤاد.

أما بنو قيس فجمعوا التحف الحسان والأموال التي يكل عن وصفها اللسان، وحملوها على مئة جمل، ودخل أمراء بنو قيس الكرام على الملك {تبع اليماني} فقبلوا الأرض بين يديه ووقعوا على رجليه، ما عدا الأمير {ربيعة} الذي ظل واقفاً في باب الصيوان، مثل الأسد الغضبان، لأن نفسه لم تطاوعه على الذل والهوان، فالتفت الملك {حسان} إلى الترجمان، وقال: {مَنْ يكون هذا الإنسان فإني أراه معجباَ بنفسه غاية الإعجاب ولا يحسب لي أدنى حساب، فسأل الترجمان عنه فقالوا: إنه العشمشم، سيد بني قيس الأمير {ربيعة} المعظم}.

فلما سمع {تبع} هذا الكلام، تبدَّل عيشه واحمرت عيناه، حتى صارت مثل الجمر، ثم ناداه فحضر وقد تعجَّب من عظم هيبته وبياض لحيته، فسلم {ربيعة} عليه ووقف بين يديه، فقال الملك {حسان}:

- أأنت سيد بني قيس الكرام؟

فقال: {نعم أيها البطل الهمام}...

 قال: {ولماذا أسأت الأدب واحتقرتني دون باقي أمراء العرب، الذي تمثلوا أمامي وقبلوا يدي وقدميّ فتقدم الآن وقبل رجلي يا مهان وإلا قتلتك بحد الحسام وجعلتك عبرة بين الأنام}.

فقال {ربيعة} وقد استعظم الأمر وأحمرت عيناه من الغيظ حتى صارتا مثل الجمر: {اعلم يا ملك الزمان أنني ملك من ملوك العربان، صاحب قدر وشان، وما ذلَتْ نفسي لإنسان، وهذه هي بلادي، وملك آبائي وأجدادي، وأنا ما تعديت عليك وما أوصلت أذيتي إليك، بل أنت شنيت علينا الغارة وامتلكت بلادنا وألحقت بنا الخسارة، وذلك من دون سبب، فكفى الذي فعلته أيها الملك المهاب، وقد بلغت منا قصدك فلا أنت تقبِّل يدي ولا أنا أقبل يدك}.

 فلمَّا سمع الملك {تبع اليماني} ملك اليمن، هذا المقال من {ربيعة} ملك العرب القيسيين، خرج من دائرة الاعتدال، وصاح بالأعوان والخدم، فقيدوا {ربيعة} وباقي الرجال، وأمر الملك بشنقه فشنقوه، وبقي معلقاً ثلاثة أيام، ثم جاء في باقي الرجال وأرادوا أن يفعلوا بهم مثل تلك الفعال، فخرج الأمير {مرة} من بين أيدي الفرسان، وتقدم إلى الملك اليماني، وقال: {الأمان، نحن الآن عبيدك وطوع يديك، فاعف عنا يا ملك الزمان}.

تفريق {بني قيس}

قال الراوي: {عفا الملك اليماني عن بقية القوم، لكنه صمم على أن يتخذ مدينة {كرسي} مملكة له، وأخرج {مرة} ومن معه من ديارهم، فتفرَّقوا في سائر الأقطار طائعين، ثم قسَّمهم إلى فرق عدة، وأقام على كل فرقة ملك من سادات {بني قيس}، فجعل الأمير {مرة} على الفرقة الأولى، وأمره أن يسكن مع قومه في نواحي {بيروت} و{بعلبك} و{البقاع}، وجعل الأمير {عدنان} على الفرقة الثالثة وأمره أن يقيم في بلاد {العراق}، فشتت بني قيس بهذه الوسيلة، وتفرقت جموعهم في البراري والتلال وهم يبكون على ما جرى}.

تابع الراوي: {ومن غريب الاتفاق، المُستحق التسطير في الأوراق، ما جرى للإخوة الأربعة الذين اشتهروا من بني قيس بالحمية والنخوة، فقد كان لزوجة الأمير {ربيعة} المذكور والد كليب و{الزير} الفارس المشهور، أربعة إخوة من الذكور: {جوشن} و{ناجد} و{جودر} والأمير {منجد} الأسد الغضنفر، وكانوا من أجود الناس، وقد اتصفوا، جميعاً، بالشجاعة وقوة البأس}.

فلما رأو أفعال الملك {حسان اليماني} الشنيعة، وكيف أنه قتل {ربيعة} ساءهم ذلك الأمر، وتوقد في قلوبهم الغيظ، ولكنهم أخفوا الكمد وأظهروا الصبر والجلد، فحملوا بيوتهم وعيالهم وساقوا غنمهم وجمالهم، وجَدوا في قطع البراري والآكام، حتى وصلوا إلى بلاد الشام.

 فنزلوا قرب خيمة الملك اليماني، فقال لهم: {من تكونون من العربان}، فقال له {ناجد}: {اعلم أيها السيد الماجد، أننا من خيار العرب، أصحاب الحسب والنسب، وكان الأمير {ربيعة} متزوجاً أختنا {جميلة}، وكنا على زمانه في نعم جزيلة، والآن أمسينا في ذل وهوان، ليس لنا قدر ولا شأن، وقد قصدناك وأتينا إليك وجعلنا اعتمادنا بعد الله عليك}.

 فأعجب الملك {حسان} بكلامهم وأبلغهم مرامهم، وجعلهم من جملة وزرائه، لكنهم كانوا يترقبون الفرص ليأخذوا بالثأر ويزيلوا عن قلوبهم الغُصَص، ولما بلغ الملك {حسان} الغاية، دخل إلى مدينة الشام، ونزل بالسرايا، فأطاعه العباد وخضعت له جميع البلاد، واستمر على هذه الحال ثلاثين سنة يهاديه الملوك الأكاسرة.

قال الراوي: {ذات يوم، وبينما كان الملك جالساً في الديوان ومن حوله الأكابر والأعيان، يتحدثون عن نساء العرب اللواتي اشتهرن بالفضل والأدب، والحسن والجمال، قال بعض الوزراء إنه لا يوجد في هذا الزمان بين بنات العربان في المحاسن والأوصاف البديعة أجمل من {الجليلة} ابنة الأمير {مرة} شقيق {ربيعة}، وقال إنها صبية كالبدر التمام، مخطوبة لابن عمها الأمير {كليب} ويستعدّ للزواج بها هذا الأيام، فهنيئاً لمن كانت هذه زوجته وقرينته وحبيبته}.

حيلة {كليب}

لما سمع {حسان} بذكر {الجليلة} وأنها من أجمل بنات عصرها، اشتد غرامه بها وتعلق قلبه بحبها وكتب إلى أبيها الأمير {مرة} كتاباً، يأمر أن يرسل له {الجليلة} لأن مراده أن يتزوج بها، ويكون صهره، وبهذه الوسيلة يعلو بين الناس قدره:

وادخل عليَّ الجليلة وسْط قصري

وأتمتع بها وأطفي لناري

وإن كانت كما وصفوا وقالوا

سأمضي الليل معها مع نهاري

وأعطيك البقاع إلى بعلبك

وأرفع لك مقاماً في جواري

وإن لم تمتثل قولي وأمري

تراني جئتكم مثل الضواري

وأمحي جمعكم في حد سيفي

وأنهب مالكم وأنال تاري

ثُم أمر الملك {حسان} وزيره {نبهان}، أن يركب في جماعة من الفرسان، ويقصد تلك القبيلة، ويسلم الكتاب إلى الأمير {مرة}، ويأتيه بالجليلة، فامتثل حتى وصل إلى تلك الديار، فرأى القوم في سرور وأفراح وانشراح، لأنهم كانوا منشغلين في تلك الأيام، بزواج {كليب} بـ {الجليلة}.

فلما سمع {مرة} بقدوم وزير {اليماني}، خفق قلبه من شدة الخوف والفزع، وبعدما أكلوا وشربوا ولذوا وطربوا، سأل الأمير {مرة} الوزير عن سبب زيارته، فقال الوزير {نبهان}: {أتيتك بكتاب من {تبع} ملك الأعارب يطلب ابنتك امرأة له}... ثم أخرج الكتاب وسلمه إياه ففتحه {مرة} وقرأه، ولما وقف على حقيقة فحواه ضل عقله وتاه، لأنه إن أبى وامتنع يقتله الملك {اليماني}، وإن أجابه إلى ما طلب يصير معيرة بين قبائل العرب}.

 ووافق الأمير {مرة}، على تلبية طلب الملك {حسان}، خوفاً من بطشه، وقال للوزير {نبهان}: {بعد ثلاثة أيام يكتمل جهاز {الجليلة}، بالتمام فنضعه بالصناديق ونحمله على ظهور الجمال مع باقي الأمتعة والأحمال، وتركب {الجليلة} في هودجها وتسير أمام الفرسان، وتذهب أنت معنا إلى عند الملك {حسان}، فانشرح صدر الوزير، وتيقن من النجاح وبلوغ المراد والحصول على الخلوع، وبات تلك الليلة وهو فرحان.

قال الراوي: {هذا ما كان من الوزير {نبهان}، وأما الأمير {مرة}، فاستدعى {كليب}، عريس {الجليلة} وابن عمها، سراً، وقص عليه الحديث وقال: {اعلم يا ثمرة فؤادي، ومن هو عندي أعز من أولادي، إن الضرورة أحوجتني إلى ذلك، خوفاً من الوقوع في المهالك، وقد أعلمتك بما جرى وتجدد فما رأيك أيها البطل الأمجد؟..}. فلما سمع {كليب} الكلام، صار الضيا في عينيه كالظلام، وقال: أرجوك أن تُمهل الوزير ثلاثة أيام، على المسير حتى أنظر هذا الأمر العسير}.

تابع الراوي: {وكان لكليب صديق يتمنى له النجاح والتوفيق، يدعى العابد {نعمان}، وكان كثيراً ما يعده بالخير والإحسان، فقصده تلك الليلة وأخبره بما جرى وما كان من أمر الملك {تبع حسان} فقال له: {أبشر بالخير يا نور العين فإن الرأي عندي أن تجهز مئة صندوق يكون كل واحد بطبقتين في الطبقة الواحدة تضع فارساً من أبطال المكافحة والمجالدة، وفي الثانية جهاز {الجليلة}، وأنت تكون مهرجاً لها أمام سادات {الجليلة}، وبهذه الوسيلة تتم الحيلة وتنال المراد من رب العباد}.

ونبَّه نعمان صديقه {كليب} إلى سلسلة من النحاس الأصفر، معلقة فوق الباب الأكبر للمدينة، {وهي مرصودة من سحر هذا الزمان لهلاك من أراد الضرر للملك {تبع حسان}، فتقع عليه بالحال وتذيقه الوبال، فخذ لنفسك الحذر}، ثم أعطاه السيف الخشب، فعاد {كليب إلى عمه، فأبلغه بالحيلة التي سيدخل بها على {حسان}، وقال كليب: {فإن تمت الحيلة نلت المرام وأخذت ابنة عمي بحد الحسام، وأكون قد أخذت ثأر أبي}.

قال الراوي: {فاستصوب الأمير {مرة} كلام كليب، وكان أمهل الوزير {نبهان} ثلاثة أيام، وقد اطلع ابنته {الجليلة} على ما تقدم من حيلة، فلما جاء يوم الارتحال، انتخب كليب مئة من الأبطال، ثم وضعهم في صناديق الأحمال، وكان من بينهم الأمير جساس}.

وركبتْ {الجليلة} في هودجها، وركب الوزير {نبهان} والأمير {مرة}، وتقلد {كليب} بالسيف من تحت الثياب، ولبس فرواً من جلود الثعالب والذئاب وكان يقود زمام ناقة {الجليلة} أمام فرسان القبيلة، فلما رآه الوزير نبهان قال لبعض الفرسان: {من يكون هذا الإنسان؟}، فقالوا هذا مهرج {الجليلة} بنت {مرة} واسمه {قشمر بن غمرة}، وما زالوا يقطعون البراري والآكام، ثلاثة أيام حتى اقتربوا من مدينة الشام، فنزلوا هناك ونصبوا الخيام.