الذكرى العاشرة لرحيل زكي ناصيف {دلعونا} الزمن الجميل الغائب
تختتم فرقة {هاماسكاين} المهرجان الذي أطلقته الجامعة الأميركية في بيروت بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيس {برنامج زكي ناصيف للموسيقى} في احتفال بعنوان {موسيقى من لبنان والعالم}، مساء 4 مايو المقبل. وستقام أمسيات المهرجان في الثامنة مساء في الـ{أسمبلي هول} وتلك لفتة إيجابية لأحد أعمدة الموسيقى الشعبية في لبنان.
جيد أن يعاد الاعتبار إلى زكي ناصيف في هذه المرحلة بالذات، هو الذي تعرض للمحاربة في عقود ماضية مع غيره من الفنانين اللبنانيين. كان أحد الشعراء اللبنانيين {الحداثويين} المسيطرين على المنابر يخصص هجومه على كل من ينافس المؤسسة الفنية التي يدعمها، بمنأى عن كواليس الماضي.يجمع نقاد الطرب على أن زكي ناصيف، أحد الرواد الذين ساهموا في تطوير الفن القائم على الإرث الفولكلوري الشعبي، بخاصة في مجالي الغناء ورقصة الدبكة. وحين نقول فولكلور في لبنان، فهو في الغالب لا ينفصل عن الريف، وما فعله زكي ناصيف وأقرانه، وهم كثر، انهم استنبطوا أشكالاً جديدة في الفن الفولكلوري، تقترب من الحديث، وأشاعوها في المدن. ترافق ذلك مع استقلال لبنان وبحث مواطنيه عن ثقافتهم الخاصة {الوطنية} أو العصبوية المحلية، لإرساء ما هو مشترك في ما بينهم.
فولكلور أهل السهلإذا كان الرحابنة (منصور وعاصي بالتعاون مع فيروز) أبدعوا في استعمال مكنونات فولكلور أهل الجبل، لقربهم من المجتمع الريفي في جبل لبنان، فزكي ناصيف كان قريباً من فولكلور أهل السهل وتجاربه، هو المولود في بلدة مشغرة البقاعية (شرق لبنان) في 1916، قبل أن ينزل إلى بيروت في بداية العشرينيات ويقطن في منطقة الطيونة.نشأ على صوت أمه الجميل وغنائها، وسماع الفولكلور اللبناني والغناء البلدي، بالإضافة إلى الإسطوانات التي كان والده يجلبها معه لرواد الغناء العربي في ذلك الوقت: سلامة حجازي، سيد درويش، يوسف المنيلاوي، أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وغيرهم، فيسمعها على الفونوغراف ويحفظها. لكن التراتيل الدينية، السريانية والبيزنطية، هي التي طبعته وغرف منها في تآليفه الموسيقية في ما بعد.كان والد زكي ناصيف يعمل تاجر جلود في مشغرة البلدة المشهورة بتصنيع الجلود ودباغتها. تعلّم العزف على البيانو وفن التأليف والتلحين في معهد الموسيقى في الجامعة الأميركية على مدى ثلاث سنوات، انقطع بعدها عن الدراسة التي تعطلت بسبب نشوب الحرب العالمية الثانية، لكنه عاد واستكمل تحصيل العلوم الموسيقية، لدى برتران روبيار، استاذ مشهور في الموسيقى، في ذلك الوقت، وكان يدرس الرياضيات أيضاً في جامعة القديس يوسف.انطلاقة فنيةبدأ زكي ناصيف انطلاقته الفنية في الإذاعة، غناء وتلحيناً، ثم استكملها في إذاعة {الشرق الأدنى} التي كانت تساهم بشكل أو بآخر في تنشيط الأغاني والألحان الفولكلورية الجديدة، ويشرف عليها الفنان الفلسطيني صبري الشريف، الذي تحلّق حوله في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي بعض هواة الفن الغنائي الشعبي، من هؤلاء من أصبح في الصدارة، أمثال الأخوين رحباني وتوفيق الباشا وزكي ناصيف نفسه وفيلمون وهبي. وقد ألفوا ما سمي {عصبة الخمسة} تأثراً {بعصبة الخمسة} الروسية التي كان لها دور فاعل في تنشيط الفن الروسي. وكان هدف العصبة اللبنانية القفز فوق حدود التقليد الموسيقي السائد عربياً ولبنانياً.بعد توقف {إذاعة الشرق الأدنى}، تابع زكي ناصيف مع العصبة مشروعهم الغنائي بتشجيع من المتموّل بديع بولس الذي أنشأ {استديو الفن} لتسجيل الأغاني والألحان وإنتاجها في منطقة سن الفيل في ضاحية بيروت الشمالية.الليالي البعلبكية في تلك الليالي البعلبكية الشهيرة انطلقت {طلّوا حبابنا طلّوا / نسّم يا هوا بلادي}، أغنية ذائعة لحنها زكي ناصيف وغنّاها الكورس، وأغنية {يا لالا عين لالا}، وقد غناهما لاحقاً وديع الصافي... وكانتا من أبرز أعمال زكي ناصيف من غناء الكورس.يذكر أن زكي ناصيف أول من أدخل الكورس (اعتبر نوعاً جديداً) على الغناء في الإذاعات، بعدما كان الغناء مقتصراً على الفرد، ولم يجازف أحد قبله في وضع أغنيات للكورس. لذا كان من أوائل من جعلوا للكورس دوراً فنياً وجزءاً مهماً في بنية العمل الغنائي. لم يستعمل الكورس كعامل يساعد المغني ويحمل عنه، بل كعنصر فني ضروري في بنية الأغنية الحديثة والمعاصرة. كرست {الليالي اللبنانية} في بعلبك انطلاق الألحان الفولكلورية ورفعتها إلى مستوى تذوّق فئات حديثة من الجمهور اللبناني والعربي. إزاء هذه الحماسة للمهرجانات والفرق الفولكلورية، غناء ولحناً ودبكة جبلية وبقاعية، نشأت فرقة {الأنوار} (1960) بمبادرة من الصحافي سعيد فريحة، وضمّت أهل الفن من بينهم زكي ناصيف، فقدّمت مهرجانها الأول، في كازينو لبنان (صيف 1960)، مستمدة فكرة العرض الفولكلوري الراقص من {عرس في القرية}، فاتسعت لكل ما يخطر في البال من أغانٍ ولوحات. لاحقاً قدمت فرقة الأنوار {عرس في القرية} على خشبات المسارح في قبرص وباريس وفيينا وفرانكفورت. في البداية كان وديع الصافي مطرب {العرس}، لكنه انسحب من العروض التالية فصار الكورس هو مطرب العرس.ثقافة الفولكلورلا شك في أن لزكي ناصيف نظرته الخاصة في تفسيره لثقافة الفولكلور، فهو اكتشف، في أكثر من حديث وأكثر من مناسبة، أن كلمة {الدلعونا} لا تعني الدلع، لا في لفظها ولا في معناها، على ما كان شائعاً، بل مستمدة من {العونة}. يتذكر أنه، في صباه، كان يسمع الناس في قريته يتنادون قائلين: {العوني، العوني}، كلما أرادوا التعاون في ما بينهم لانجاز عمل ما لأحدهم، كتشييد بيت أو في مواسم القطاف، وكانوا يعقدون حلقات الدبكة ويغنّون {على العوني}. ومع الزمن دغمت هذه الكلمة فأمست {على دلعونا} وأصلها سرياني.فيما ركّز الرحابنة على تبني هذه الألحان الشائعة، اعتمد زكي ناصيف الأهازيج التي لا ألحان لها... فأخذ منها الإيقاع، على سبيل المثال: {طلوا حبابنا طلوا}، استوحى لحنها من عدية شعبية: {قام الدب تا يرقص}، وبدلاً من أن يغني {الدلعونا}، ابتكر عملاً ووضع {الدلعونا} فيه، هكذا ولدت أغنية {طلوا حبابنا}.ألحان فولكلورية كثيرة محفوظة في الذاكرة الجماعية في لبنان أصولها سريانية، أما علاقة زكي ناصيف بها فهي استفادته من هذه الالحان، إذ اتجه صوب السرياني أكثر مما اتجه صوب البيزنطي. فالألحان التراثيّة وبخاصّة الإيقاعية (القرّادي والموشّح البلدي والمعنّى والدلعونا وغيرها) هي سريانية بتركيبتها الشعرية والموسيقية.وجد زكي ناصيف في الدلعونا والفولكلور ركيزة لفنه، وساهم في إطلاق فنانين ولحّن أغاني شعبية عربية. لكن رغم أهميته، يلاحظ أن أغانيه وأعماله غائبة عن وسائل الإعلام اللبنانية، وباتت أقرب الى ذاكرة الزمن الجميل، تحضر في بعض المناسبات أغنيته {راجع يتعمر لبنان} التي باتت ممجوجة في بلد اعتاد الأزمات والمناكفات والخراب.برنامج زكي ناصيف للموسيقىبدأت فكرة {برنامج زكي ناصيف للموسيقى} في 11 مايو 2004 بعد شهرين على رحيله. يموّل البرنامج نفسه بحفلات ونشاطات عدة. هدفه الأول كان جمع أعمال زكي ناصيف، بالتعاون مع الاختصاصية الموسيقية جيزيل حبو. استغرق ذلك أربع سنوات، ونقلت أعماله في 52 صندوقاً إلى مكتبة {يافث} في الجامعة الأميركية (2008 )، بعدما تنازل عنها ورثة الفنان للجامعة. في 2011، انتهى جزء من أرشفة مؤلفاته التي بلغت 1100 عمل، أي أربعة أضعاف ما نُشر.هدفه الثاني تنظيم أمسيات وندوات تتناول أعمال الفنان، وتأمين منح وجوائز باسم زكي ناصيف لتعزيز التميز في الأداء الفني والبحث الموسيقي.