مصر بين طريقين

نشر في 29-06-2014 | 00:01
آخر تحديث 29-06-2014 | 00:01
 ياسر عبد العزيز كان الرئيس عبدالفتاح السيسي يتحدث خلال حفل أقيم في مناسبة تخرج دفعة جديدة من الكلية الحربية المصرية الأسبوع الماضي، حين فاجأ الجميع بإعلانه عن تبرعه بنصف راتبه الشهري ونصف ممتلكاته بما فيها تلك التي ورثها عن والده.

أراد السيسي من خطوته تلك أن يضرب مثلاً بنفسه في الإيثار والتضحية والتقشف من أجل تخطي البلاد الأزمة الاقتصادية التي تثقل كاهلها، ويبدو أن ما فعله لاقى صدى جيداً، حيث تواترت الأنباء عن تبرعات من رجال أعمال وأثرياء مصريين تجاوباً مع تلك الخطوة وتعزيزاً لها.

لقد أبلغ السيسي الحضور في هذا الحفل أنه لم يستطع إقرار الموازنة العامة للبلاد، لأنها تنطوي على عجز "يقارب تريليوني جنيه مصري" (الدولار الأميركي يساوي 7.17 جنيهات)، وهو أمر اعتبره تكريساً للأزمة الاقتصادية، وإضراراً بمستقبل الأجيال المقبلة.

سيمكن فهم تصرف السيسي من زاوية رغبته في لعب دور القدوة لمواطنيه حين يطالبهم بالتخلي عن مميزات اقتصادية أو مواجهة إجراءات تقشف، لكن سيصعب جداً اعتبار أن بمقدور هذه الخطوة حلحلة الأزمة الاقتصادية، أو توفير طريقة ناجعة للتعاطي مع المشكلات المزمنة التي تعانيها البلاد.

تعد مشكلة نقص إمدادات الطاقة إحدى أهم تلك المشكلات المزمنة؛ ليس فقط لأنها تستنزف موارد البلاد من العملة الصعبة التي توجه إلى تمويل الواردات من المحروقات، ولا لأن انقطاع الكهرباء عن المناطق السكنية يؤدي إلى إشاعة أجواء من التذمر والتمرد ضد السلطات، ولكن أيضاً لأن المحروقات تستحوذ على نسبة كبيرة من الأموال المخصصة للدعم، والتي تستنزف نحو ثلث النفقات الحكومية سنوياً، وربما كان هذا أحد أهم الأسباب التي دعت السيسي إلى تنظيم "ماراثون دراجات" قاده بنفسه قبل نحو أسبوعين في منطقة مصر الجديدة شرقي القاهرة.

كان هذا "الماراثون" حدثاً "كرنفالياً" بامتياز، وقد ختمه السيسي بكلمة، دعا فيها المواطنين إلى استخدام الدراجات في التنقل بدلاً من المركبات التي تستهلك الطاقة، معتبراً أن إقدام كل مواطن على تلك الخطوة من شأنه أن يوفر نحو 12 جنيهاً يومياً تنفقها البلاد على المحروقات التي يستخدمها في الذهاب إلى عمله.

سيمكن اعتبار أن تلك الخطوة ناجحة جداً على صعيد تسويق صورة مصر باعتبارها مكاناً آمناً يقود فيه رئيس البلاد دراجة، وسط حشد من السياسيين والفنانين والشخصيات العامة في أجواء احتفالية، بالإضافة طبعاً إلى المعنى الرمزي الذي تحمله تلك الفعالية في ما يخص الدعوة إلى الترشيد واستخدام وسيلة رياضية في التنقل بشكل يشبه ما يحدث في دول متقدمة كثيرة.

لكن سيتعذر جداً اعتبار أن تلك الدعوة يمكن أن تثمر تغيراً في طرق تنقل المصريين الراهنة، أو أن تنجح في تقليل استخدام المحروقات، بالنظر إلى غياب عوامل تفعيلها الضرورية؛ مثل جاهزية الطرق، ووجود المواقف، وتوافر الأمن، وملاءمة الطقس.

سيذكرنا هذا بـ"اللمبات الموفرة للطاقة"، التي تم توزيعها على بعض المواطنين عشية الانتخابات الرئاسية الأخيرة من رجال أعمال مؤيدين لانتخاب السيسي؛ وهي محاولة لم تستمر، كما لم تتم بلورتها في سياسة واضحة ومستديمة يمكن أن تؤتي ثماراً تخفض استهلاك الكهرباء على المستوى الوطني بفارق ملموس.

تجمع النوايا الحسنة والحماس بين الدعوات الثلاث السابقة، والتي تذكرنا بما جرى عند تشكيل حكومة المهندس محلب الأخيرة، التي تعد أولى الحكومات في عهد السيسي، فقد تمت دعوة وزراء الحكومة إلى قسم اليمين الدستورية أمام رئيس الجمهورية في السابعة صباحاً، وهو أمر لم يحدث في تاريخ الحكومات المصرية من قبل،

ويبدو أن السيسي شديد التعويل على قيم الحماس، والانضباط، والتفاني، والإيثار، والزهد، في إدارة شؤون البلاد، ولعله يثق كثيراً بقدرة الإرادة الأخلاقية على تحقيق التقدم وتجاوز الصعوبات.

عندما أعلن السيسي "خريطة طريق المستقبل" يوم 3 يوليو الفائت، في أعقاب إطاحة حكم "الإخوان" حرص على تضمين بند يخص الأداء الإعلامي ضمن استحقاقات تلك الخريطة، وفي هذا البند طالب السيسي، بلسان القوى الوطنية التي صاغت الوثيقة، بـ "ميثاق شرف إعلامي"، وهو الأمر الذي عاد وألح عليه خلال المقابلات الإعلامية التي أجراها خلال حملته الانتخابية.

تعكس تلك الرؤية، والمطالبة التي تستهدف إدراكها، تصوراً مفاده أن حل مشكلة الإعلام في مصر يمكن أن يأتي من خلال اتفاق الإعلاميين المصريين على مبادئ أخلاقية يلتزمون بها في أدائهم، بشكل طوعي، وبالتالي تتوقف الممارسات الحادة والتجاوزات الكبيرة التي تُرتكب يومياً على صفحات الصحف وشاشات التلفزيونات.

لقد خاطر السيسي مخاطرة كبيرة حين استجاب للإرادة الشعبية العارمة التي أرادت إزاحة حكم "الإخوان"، وتعرض لضغوط ضخمة، وواجه تحدياً صعباً، ثم خاض الانتخابات الرئاسية، وحصل على ثقة القطاع الأكبر من مواطنيه، ليتمتع بشعبية جارفة وتأييد كبير خصوصاً من مؤسسات الدولة.

يواجه السيسي تحديات صعبة، بعضها يتعلق بالأنشطة الإرهابية التي يمارسها تنظيم "الإخوان" وحلفاؤه في الداخل والخارج، وبعضها الآخر يتصل بالأزمة الاقتصادية الحادة، وعجز الموارد عن مجابهة النفقات، وتردي حالة الأمن، ونفور قطاعات من الشباب، والضغوط على الحريات العامة، وبعض الانتهاكات التي تمارسها السلطات بحق ناشطين، وبعض الضغوط الخارجية التي تقيد حركته وتضيق خياراته، لكنه في المقابل يمتلك دعماً جوهرياً من مؤسسات الجيش والشرطة والحكومة وجهاز الدولة البيروقراطي والقضاء والإعلام والمجتمع المدني والأحزاب المدنية والقطاعات الغالبة من الجمهور.

إن هذا الدعم يمكن أن يساعده في مجابهة التحديات الصعبة، خصوصاً أنه يتلقى مساندة نادرة من دول غنية ومؤثرة مثل السعودية، والإمارات، والكويت، على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، لكن الخطوات التي اتخذها السيسي حتى هذه اللحظة تشير إلى أنه لم يبدأ بعد بمحاولة تجيير هذا الدعم وتلك المساندة لمصلحة سياسات مدروسة وناجعة يمكن من خلالها عبور الأزمة الخانقة التي تعانيها البلاد.

إن التبرع بنصف الراتب والأملاك، والدعوة إلى استخدام الدراجات في التنقل، والتعويل على امتثال الإعلاميين للقيم الأخلاقية كحل لمشكلة الإعلام، وإلزام الوزراء بالعمل من السابعة صباحاً، كلها إشارات طيبة، وعناصر إلهام وتحفيز إيجابية، لكنها لن تكون كافية أبداً لخلق سياسة قادرة على الفعل والاستدامة وتغيير الأحوال الصعبة التي تعانيها البلاد.

لقد اتخذ السيسي خطوات مبشرة في هذا الاتجاه؛ مثل إنشاء لجنة لـ "الإصلاح التشريعي" يمكنها أن تعدل القوانين المكبلة للاستثمار، والإصرار على تطبيق حد أقصى للأجور في الوظائف الحكومية، ومحاولة تعويض نقص إمدادات الطاقة عبر التفاوض مع الجزائر لاستيراد الغاز منها، لكن تلك الخطوات أيضاً ليست كافية.

سيمكن استلهام تجارب رجال استطاعوا أن ينتشلوا بلادهم من شفا الانهيار ويحولوها إلى نمور واعدة واقتصادات ناجحة ودول مستقرة ذات مكانة مرموقة، عبر سياسات ناجعة محكمة.

إن تجربة دا سيلفا في البرازيل صالحة للاستعادة في ذلك الصدد؛ فقد أقر الرجل إجراءات تقشف، وحارب الجوع والفقر من جهة، لكنه استطاع أيضاً أن يحفز الاستثمار، ويقر ضرائب تصاعدية، ويخلق قاعدة صناعية من جهة أخرى، الأمر ذاته فعله مهاتير محمد في ماليزيا، وأردوغان في تركيا، وكلاهما سار في طريقي "الإلهام" و"بناء النظم"، بحيث لم يكتفيا بـ"ضرب المثل وتكريس القدوة"، بل سعيا إلى إطلاق الخطط وإرساء السياسات التي يمكن أن تحقق رؤية التقدم والنمو.

تبدو مصر اليوم بين طريقين، كلاهما محفوف بالنوايا الحسنة، لكن أحد هذين الطريقين سيضمن السلامة، لأنه يسند التوجه الإيجابي بسياسة تضمن تفعيله واستدامته، أما الآخر فيعتمد فقط على نبل الغاية ونقاء النية، لكنه قد يفضي إلى ما لا يريده المصريون ولا يتحملون أثمانه.

* كاتب مصري

back to top