في البدء كان الوعي!
هذا الوعي «المدني» لما «بعد الثورة»، الذي توافر عند التونسيين، ضروري لأي ثورة قبل القيام بها، فمن السهل تهييج الجماهير ودعوتها للخروج على الحاكم المستبد، لكن الصعب هو المحافظة على هذه الثورة وجني ثمارها بعد ذلك في ظل عدم توافق النخب السياسية في المراحل الانتقالية للحكم الديمقراطي.بعد مضي 3 أعوام على ثورتي تونس ومصر، يبدو المشهد مختلفاً إلى حد كبير في البلدين، فقبل أيام تم في تونس إقرار دستور جديد للبلاد على درجة عالية من التوافق والقبول من جميع الكتل السياسية، إذ حاز 200 صوت من أصل 216 في المجلس التأسيسي، كذلك تم التوافق على حكومة للمستقلين تقود البلاد حتى الانتخابات القادمة، وهي بلاشك خطوة مهمة لتحقيق الاستقرار السياسي وبناء دولة المؤسسات.
أما في مصر، فبعد 3 أعوام من المعاناة وقائمة طويلة لأسماء الشهداء، تأتي الثورة لتعيد المصريين الى زمن الخمسينيات، زمن الضباط الأحرار الذين قاموا بالانقلاب على حكم الملك فاروق، زمن جمال عبدالناصر الذي عاد في هيئة قائد القوات المصرية عبدالفتاح السيسي والذي جاء بيان المجلس الأعلى للقوات المسلحة داعماً ترشيحه لمنصب رئاسة الجمهورية وسط تهليل وتصفيق من قاموا بالثورة على حكم مبارك ليعيدوا اختراع العجلة أو حكم العسكر من جديد، حيث السمع والطاعة دون نقاش أو جدال، والقرارات "العسكرية" الواجبة التنفيذ دون اعتراض!والأمور على ما يبدو سوف تصبّ في مصلحة السيسي، حيث يتوقع كل المتابعين أنه سيكتسح منافسيه بأصوات تعيدنا إلى زمن الرؤساء الأساطير الذين كانوا يحققون 99% من الأصوات، ولكن في هذه المرة بالرضا والرغبة الشعبية الفعلية، لا بالتزوير والإجبار، صدقوا أو لا تصدقوا! هذا الاختلاف الواضح في مسار الثورتين ونتائجهما، يرجع في الواقع إلى مستوى الوعي السياسي في البلدين، وحين أتحدث عن الوعي هنا أقصد وعي النخب السياسية التي تحرك المجاميع وتشكل الرأي العام، ففي مصر كان النزاع واضحاً بين هذه النخب للاستيلاء على "التركة"، أقصد الحكم، ومن ثم التخلص من كل الخصوم السياسيين بعد ذلك، وهم بذلك لا يختلفون عن حكم الفرد الذي قاموا بالثورة عليه في شيء، فالإقصاء والتفرد بالحكم وتخوين الآخر بدت جلية في حكم "الإخوان" الذي لم يستمر أكثر من عام وشهرين، وهو ما لم يحدث في تونس، فالرغبة عند النخب السياسية التونسية لم يكن هدفها الوصول الى سدة الحكم، إنما كان التوصل إلى توافق حول النقاط التي تجمعهم بالرغم من عمق الخلافات الفكرية والسياسية بين الإسلاميين والعلمانيين هناك، وكان الهدف هو الحصول على الشرعية التوافقية قبل الحصول على الشرعية الانتخابية، وهو دور اضطلعت به منظمات المجتمع المدني التي جمعت كل الأطراف على مائدة الحوار، ونجحت من خلال إيجاد الأرضية المشتركة في إقرار دستور مدني علماني لا يتعارض مع الركائز الأساسية للدين، ولا يعطي في الوقت ذاته أفضلية تقوم على أساس العقيدة الدينية!هذا الوعي "المدني" لما "بعد الثورة"، الذي توافر عند التونسيين ضروري لأي ثورة قبل القيام بها، فمن السهل تهييج الجماهير ودعوتها للخروج على الحاكم المستبد، حيث الأسباب متوافرة والرغبة عارمة والغضب جامح، والفضل في ذلك يعود إلى سني الظلم والقهر التي جعلت من كل مواطن قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة، لكن الصعب هو المحافظة على هذه الثورة وجني ثمارها بعد ذلك في ظل عدم توافق النخب السياسية في المراحل الانتقالية للحكم الديمقراطي، والذي يجب أن يقوم على أسس من المساومات بين القوى السياسية الرئيسة، وليس فقط ديمقراطية صناديق الانتخاب لتتولى بعدها الأغلبية الفائزة الحكم، ومن ثم تقصي كل معارضيها!والدرس الذي نتعلمه من الثورتين التونسية والمصرية هو: "لا تقم بالثورة ما لم تكن جاهزاً لما بعدها"!والجاهزية هنا تكون في النضج الفكري لأطراف المعارضة بأطيافها كافة للاتفاق على صورة الدولة ما بعد الثورة، والحرص على التوافق فيما بينها من أجل الهدف المشترك القائم على أن الوطن للجميع، يشمل الجميع، ويعاملهم على قدر واحد من المساواة دون أفضلية لأحد على أحد بسبب الأصل والجنس والدين!