لسبب ما تلازم شهر رمضان بذهني مع غربة تخصّه.

Ad

كل الأيام تمرّ بوقع عجلتها الثابتة دون أن تعير أحداً انتباهاً، لا تحزن لمصيبة شخصٍ، ولا تشارك آخر نشوته بفرحه، حاضرة غائبة عما يدور على ضفتي دربها، لا شأن لها بصخب أو صمت يدور حولها. ووحده ظرف الإنسان الشخصي يُضفي على اللحظة لونها البهي بصوت ضحكتها العالي، أو يرمي عليها سواد روحه، فيشعر بأنه لا يقوى على سحب أنفاسه.

مع بداية تفتح وعيّ على ما يحيط بي، بدأت ألتقط عبارات كثيرة، وكلها تشير إلى خصوصية شهر رمضان، وكم تساءلت لماذا رمضان دون غيره؟ وكم بلل الدمع عيني أمي، يرحمها الله، وهي تقول:

"رمضان يعود، لكن منْ يعود معه؟"

وتنظر في أعيننا، زوجها وأطفالها، وتبتهل بجملتها الحبيبة:

"لا فاقد ولا مفقود!"

سنوات وأمي تتمنى أن يعود رمضان وأبناؤها وأحبتها حضور على مائدة لحظته. وكأنها تطلب من قسوة الحياة أن تكف عن ممارسة حصادها!  

طفلٌ أنا حين بدأت أستشعر أن لهذا الرمضان روحا تختلف عن باقي أشهر العام، وأن هذا الرمضان يأتي محملاً بأشياء كثيرة لا يأتي بها شهرٌ غيره، ينثرها على البشر والحجر، فيغير بها من وقع حياتهم، وسحنات وجوههم ونبرات أصواتهم، وطباعهم، وربما خطواتهم، وشيئاً فشيئاً صعدت في قلبي العبارة:

"رمضان غريب!".

لا أدري لماذا هذا الرمضان وحده غريب دون أشهر السنة جميعها! كل الأشهر تمرّ بسيرها الرتيب دون أن تثير غباراً! وكل الأشهر تأتي وترحل ونحن لاهون بشؤون حياتنا! وكل الأشهر من القسوة بحيث تسرق خلسة أيام أعمارنا دون أن يهتز لها جفن! وكل الأشهر تكاد تكون متشابهة، فلماذا يُقال عن رمضان وحده بأنه شهر غريب؟

احتجت سنوات كي أستوعب مفهوم غربة رمضان، فهو ليس غريباً علينا نحن البشر، لكنه غريب وسط زملائه الأشهر. غريب بسلوكه وحنوه على الإنسان. وقد يتبادر إلى الذهن فوراً: أي حنو وسط جهد الصوم المُرهِق، وتحمل الجوع والعطش؟ لكن لسان البشرية بتجاربها يقول إن احتمال الجوع والعطش، أهون بكثير من احتمال مصائب الدنيا التي تحرق القلب، وتترك رمادها مكوماً على ساحة الروح!

رمضان غريب عن باقي شهور السنة لأنه يلتفت إلى الإنسان! يصاحبه في حسابه للوقت، ويجلس معه على سجادة الصلاة، وحول المائدة، وفي مناجاة الرب. هو غريب يهتم باللحظة واليوم، يمسك بكف الإنسان، وعلى أصابع اليد الواحدة يبدأ بالعد، منذ لحظة دخوله، وحتى لحظة وداعه. المسلم نسي أسماء الأشهر العربية، ونسي في أي سنة نحن من التقويم الهجري، لكنه لا ينسى رمضان، راغباً أو مجبراً، لأن رمضان يأتي كل عام حاملاً خصائصه المتغيرة، فليس من رمضان يشبه ما سبقه، وليس من رمضان يشبه شهراً آخر يأتي بعده!

رمضان غريب، لأنه دون شهور السنة، يمتلك جراءة أن يقف نداً لنا! ويحاول ما أمكنه تغيير عاداتنا التي نمارس يومنا بها، ويبدو متسامحاً كأجمل ما يكون التسامح مع من يجافيه، أو يبتعد عنه، وصوت حاله يقول:

"أكون رمضان لمن يريدني ويُقبل عليَّ، ولا أغصب أو ألزم أحداً بمصاحبتي!".

رمضان الغريب الذي أعرفه منذ صغري ما عاد كما كان! رمضان الذي أحيا اليوم لطخت وجهه مساحيق الحياة الاستهلاكية المتوحشة! وشوهت ساعات التقاء أحبابه أعمال تلفزيونية هابطة! ونزعت عنه شيئاً من روحه الأجمل، ممارسات عبادة طقسية لا تسمو ولا ترتفع لقدسية العبادة.

رمضان غريب كان وسيبقى!

رمضان غريب، ويزداد غربة في عالم مجنون لا يقيم وزناً للروح!