نجحت مذيعة الشباب والرياضة في الابتعاد تدريجاً عن فكرة الفناء وانشغلت بالحياة، وبأضواء المجد، فلم تبخل الدنيا عليها بالمعجبين، وكما يفعل الأب مع ابنه الوحيد المدلل لم تحرمها الحياة من شيء، كأن الدنيا لا تريد لفيفي أن تفلت من بين يديها، أو كأنها ابنة الدنيا الوحيدة والمدللة، فهي ظالمة الحسن، أنوثتها طاغية وذات كبرياء تذل الرجال عن رضا منهم. صالون التجميل جزء من برنامجها اليومي، وانتقاء العطور هوايتها، والأناقة صفة ملازمة لها أينما حلت، وجهها كالبدر ليلة اكتماله، وشعرها الطويل الناعم كأنه ليلة من ليالي الشتاء حالكة الظلام. أما صوتها فكان أخاذاً، جميلة إذا جلست، ومثيرة إذا مشت، جذابة إذا تكلمت، فاتنة إذا صمتت، لم تكن نساء وحسناوات نادي الصيد يملأن عينيها، فهي في ناديها بلا منافس، في نادي الجزيرة حيث تتردد على صديقات لها يعسكر لها الشباب ويترقب إشراقتها للرجال، وتتابعها عيون المسنين في حسرة، بينما تتمنى لها النساء مصيبة تريحهن منها، ومن الجميلات أمثالها.

Ad

لم يكن غريباً أن يتسابق العرسان إلى بيتها طلباً ليدها، كل واحد كان يحلم بأن يفوز بها شريكة لعمره فيكون قد حظى بالأنثى التي تغنيه عن نساء العالمين، فهي الملخص الشافي الوافي لعالم المرأة بكل ما فيه من أسرار وأخبار وفتنة. لكن الغريب كان في موقف فيفي التي ترفض فكرة الزواج، مهما كانت ثروة العريس أو وسامته أو وظيفته المرموقة أو منصبه الذي يجعله في مصاف أصحاب المقام الرفيع، ربما كانت تستكثر أن تمنح نفسها لرجل بعينه وتحرم ملايين رجال الكون منها، فالمساواة في الظلم عدل، وما دامت رفضت عريساً فلن تكون لغيره.

 منطق غريب لكنها تؤمن به، وتجد في حياتها ما يدعمه، على النقيض من أختها الصحافية الكبيرة التي كانت تعيش معها في شقة واسعة الأرجاء في قلب القاهرة. أختها ترى أن فيفي ضحية «سحر» من امرأة تكرهها، وهو سحر بوقف الحال، وتعطيل الزواج، لكن فيفي رفضت الفكرة بشراسة، واتهمت شقيقتها بالخرافة والهلوسة وتصديق الدجل والشعوذة وحكايات الجن والعفاريت والأسحار. فهي ترفض الزواج بمحض إرادتها ولا تشعر قط أنها تحتاج إلى رجل، بل هي تعطف عليهم كلما شاهدت الجوع يصرخ في عيونهم، فترفض أن يجلس أحدهم على مائدتها ويظل الباقون جوعى.

تغير لافت

استسلمت الأخت الكبرى لمنطق أختها المذيعة الحسناء، أصابها اليأس فلم تعد تناقشها في عروض الزواج التي تتلاحق من هؤلاء الذين يشاهدون فيفي للمرة الأولى ويدهشهم أنها غير مرتبطة، مرت الأيام بالأختين داخل الشقة الكبيرة، التي ورثتاها عن أمهما نائب مجلس الشعب الشهيرة، شقة في قلب القاهرة تتسع لثلاث عائلات ويتجاوز ثمنها المليوني جنيه، لكن لا تعيش فيها سوى امرأتين، الصحافية الكبيرة الأرملة بعد وفاة زوجها، والمذيعة الحسناء قاهرة الرجال وعدوة الزواج.

ذات ليلة، عادت المذيعة الجميلة وقد تغير شكلها من النقيض إلى النقيض، لم تعرفها أختها الكبري إلا من صوتها، لقد خرجت فيفي بملابسها المتحررة التي تلهب خيال الرجال وتجعلهم يلعنون زوجاتهم في كل كتاب، وها هي تعود وقد غطت شعرها بوشاح أبيض ضربت به حول عنقها وتدلي ليغطي صدرها الذي كان أشبه بقاعدة صواريخ ساحقة، ماحقة، مدمرة. خلعت فستانها وارتدت ثوباً فضفاضاً أخفى كل أوراق اللعبة ودارى كل محطات الفتنة وقضى على كل إعلانات الأنوثة الصارخة. ضربت الصحافية الكبيرة بيدها على صدرها، وصاحت تحاور أختها في دهشة عارمة:

• إيه ده يا فيفي؟!

•• اتحجبت!

• متي وأين؟!

•• مش مهم!

• لا... مهم. أنا أختك الكبيرة ومن حقي أعرف؟!

•• المهم تعرفي حاجة واحدة، إني خلاص، اخترت وانتهى الأمر!

• اخترت إيه يا فيفي؟!

•• اخترت ربنا... يضايقك؟!

• ونعم بالله... يا حبيبتي! طب إيه الشنط اللي معاك دي؟!

•• شنطة فيها هدومي القديمة... ربنا يسامحني عليها.

• خلاص... نشحتها.

•• لأ... يبقى ده ذنب جديد. نحرقها أحسن!

• والشنطة الثانية؟!

•• كتب... ربنا يساعدني وأخلصها كلها قبل ما أموت. لازم أقرأ فيها 12 ساعة في اليوم على الأقل. أنا خلاص حسبتها!

• وشغلك؟!

• قدمت استقالتي قبل ما أرجع. أنا مش محتاجة الشغل. عندي فلوس كتير... ويمكن الحجاب يضايق حد وأنا عاوزة أعيش في هدوء!

دارت الدنيا بالأخت الكبرى، كتمت انفعالاتها بصعوبة، تنهدت بحرقة ونهضت من مكانها حزينة، اتجهت إلى حجرتها، تذكرت أمها ووصيتها لها بأن تكون أماً وأختاً لفيفي، بكت حتى أحمرت عيناها، تمنت لو كانت تحلم، لكن كل من حولها كان يؤكد أنها حقيقة ملموسة تعيشها. ظلت قابعة في الحجرة تفكر حتى أصابها صداع ثقيل وفجأة سمعت حركة في الخارج، فتحت جزءاً صغيراً من باب حجرتها ونظرت خلسة، شاهدت فيفي تدخل الحمام، تقف على الحوض وتتوضأ!

حياة جديدة

دب في الشقة الكبيرة إيقاع جديد، لم تعد الأخت الكبرى تسمع أغاني الحب وألبومات الموسيقى والرقص، التي كانت ترسلها مسجلة فيفي إلى كل أرجاء الشقة معظم الوقت، حلت مكانها أشرطة لدروس العلم والفقه. مكتبة فيفي خلعت ثوبها القديم أيضاً، وتحجبت، لم يعد فيها سوى كتب التفسير والأحاديث والفتاوى والمجلدات القديمة لأمهات الكتب. داخل حجرتها أيضاً كانت سجادة الصلاة في اتجاه القبلة لا تتحرك من مكانها إلا حينما تسقيها فيفي بماء الورد والمسك، ولاستكمال التحول ذهبت فيفي لأداء العمرة، وعادت لتبلغ أختها أنها تجهز نفسها لفريضة الحج بعد أشهر قليلة، وجلست الصحافية الكبيرة تستمع إلى فيفي بصدر منشرح للمرة الأولى، وقالت لها فيفي:

• «أمام الكعبة شعرت بجسدي يهتز للمرة الأولى في حياتي يملأني إحساس عميق بالرغبة في الموت وأنا على هذا المشهد، وعيناي معلقتان على الكعبة وكأنه عناق لا يريد أن ينفض. لكن ما حدث وأنا ساجدة في مسجد النبي، صلي الله عليه وسلم، كان شيئاً آخر لا تفارقني ذكراه حتى الآن، فما إن لمست رأسي الأرض وبدأت أستغفر ربي بدموع بللت وجهي حتى رأيت تحتي مساحة من النور الساطع لا أعرف مصدره، ولا مساحته، فلم أرفع رأسي وظللت سابحة في هذا النور وكأني أستحم أو أتطهر أو أخلق من جديد، لا أدري كم من الوقت فات، ولا من شاهدني من الناس في هذه اللحظة».

مضى عام ثم آخر، لم تعد فيفي خلالها تخرج إلا لزيارة صديقات لها، وسرعان ما تعود لتحكي لأختها عن روعة اللقاء، وحلاوته، ودسامة ما فيه من علم، وفي العام الثالث وقع ما لم يكن في الحسبان، ولا يخطر على بال، عادت الأخت الكبرى من صحيفتها متعبة في الواحدة ظهراً، كانت فيفي قد فرغت لتوها من صلاة الظهر وما زالت تختم الصلاة، إلا أنها شعرت بآلام أختها التي كانت تمسك ذراعها اليسرى، سألتها فيفي:

• مالك يا أختي؟!

•• آلام فظيعة شعرت بها فجأة في ذراعي.

• ضعي إيدك اليمين على مكان الألم وقولي: «بسم الله، أعوذ بعزة الله وقدرته من آلام هذا المكان»، وكرريها ثلاث مرات.

نفذت الصحافية المعروفة نصيحة أختها، وقبل أن تنته من القراءة همست لها فيفي قائلة:

• سوف أدخل لأنام، أرجوك لا توقظيني قبل الساعة الرابعة تماماً، مهما كانت الأسباب؛ أرجوكِ.

•• لكني سأعد الطعام الآن لنأكل معا؟

• أنا صائمة اليوم، بالهناء والشفاء لكِ. المهم بلاش تقلقيني قبل الساعة الرابعة، أرجوك.

تمام الرابعة اتجهت الأخت الكبرى إلى غرفة نوم فيفي لتوقظها، لكن جرس الباب يرن في إلحاح، ارتبكت الأخت الكبرى، إلى أين تذهب، توقفت لحظة، ثم اتجهت نحو الباب لتفتحه قبل أن توقظ فيفي في الموعد المحدد، وفعلاً فتحت الباب لتفاجأ بمشهد غريب: «سيدتان تقفان في حزن، لم ترهما سابقاً»، سألتهما:

• أهلا... وسهلا... مين حضراتكم؟!

وردت إحداهما:

• الحقيقة إحنا في غاية الخجل... لكن دي وصية فيفي ولازم ننفذها.

عادت الأخت الكبرى تسألهما في خوف بدأ يسري في جسدها:

• إنتو مين؟! ووصية إيه؟!

•• إحنا صديقات فيفي، وممكن تقولي إننا أخواتها، وهي كانت معانا أول إمبارح وطلبت نيجي هنا النهاردة الساعة الرابعة تماماً، علشان نغسلها.

صرخت الأخت الكبرى، وكادت تمسك في خناق السيدتين، لكن إحداهما همست لها بهدوء قائلة:

•• لو عايزانا نمشي، إحنا تحت أمرك، بس يبقى عملنا اللي علينا والذنب في رقبتك أنت، دي وصية أختكِ.

ألغاز

أمسكت الأخت الكبرى فيهما، جذبتهما إلى داخل الشقة وأغلقت الباب بالمفتاح، ثم أسرعت إلى حجرة نوم فيفي لتوقظها، لتستمع منها إلى أصل الحكاية، لكنها تكتشف أن فيفي فارقت الحياة وهي مبتسمة، وإلى جوارها المصحف. دوت صرخات الأخت الكبرى، ورغم ذلك تحاملت على نفسها وأمسكت بالهاتف تستدعي اثنين من كبار الأطباء، حضرا على الفور، فحصا فيفي ثم أكدا أن الوفاة طبيعية جداً. وأمام دهشة الأخت والشكوك التي تمتلئ بها عرض عليها أحد الطبيبين الكبيرين أن يكتب لها إقراراً ويوقعه بخط يده بأن الوفاة طبيعية، وحدثت قبل 45 دقيقة تقريباً، كانت عقارب الساعة في هذه اللحظة تشير إلى الرابعة وأربعين دقيقة، ما زالت السيدتان جالستين في غرفة الاستقبال، تضرب كل منهما إحدى يديها بالأخرى استغراباً من موقف الأخت الكبرى، التي عادت وأصرت على استدعاء مفتش الصحة. لكن لم يأت مفتش الصحة بجديد، حرر تصريح الدفن الذي يحمل تأكيداً بأن الوفاة نتيجة هبوط حاد بالدورة الدموية.

ولم  تجد الأخت الكبرى سوى أن تسمح لصديقتي فيفي بتغسيلها، بينما جلست هي تبكي بحرقة، غير مصدقة لما يحدث. انتهت اللحظات العصيبة، وطبقاً لوصية فيفي تم تجهيز المدفن سريعاً، خرجت الجنازة ليلاً، واستأذنت السيدتان في الانصراف لتأخر الوقت.

بعد أيام أعادت الأخت الكبرى شريط الساعات الأخيرة في حياة فيفي، أدهشها أنها لم تطلب عنوان أو رقم هاتف السيدتين... كانت تتمنى لو استطاعت أن تستدل على إحداهما لتروي لها علاقتها بفيفي، وماذا حدث بالضبط في آخر لقاء بينهما. ولأن الواقعة غريبة وغير مسبوقة خشيت الأخت الكبرى من أن تكون لها توابع أو تظهر السيدتان المنتقبتان بمفاجأة جديدة في المستقبل، فأسرعت بتحرير محضر بالواقعة أثار دهشة الجميع بما فيهم ضباط القسم، فالمحضر هو أيضاً من أغرب ما تم تحريره في أقسام الشرطة. أما النيابة فكان طبيعياً أن تحفظ البلاغ إدارياً، وظل السؤال حائراً حتى الآن، معلقاً بلا جواب،  من أين جاءت السيدتان؟ وأين اختفتا؟ وكأن الأرض انشقت وابتلعتهما، وما زالت الصحافية الكبيرة مصابة بالحيرة الشديدة، من الأسئلة الكثيرة التي تركتها أختها فيفي قبل رحيلها، وفي مقدمها تنبؤها بموعد وفاتها.