ليل مدينة «دترويت» أشد وطأة من نهارها. الوحشة ورائحة السخام وهياكل المعادن والأسلاك الكهربائية واصطكاك عجلات السيارات العابرة، حتى رائحة المطر لها طعم الأسيد، ذاك الذي يلتصق بالحلْق مع نكوتين السجائر في المقاهي الكئيبة والحانات الليلية، حيث يتم تبادل البودرة البيضاء والأنخاب ويمتد الإصغاء لأغاني البلوز والجاز ونقرات الغيتار الحزينة حتى ساعة متأخرة من الليل.
يعتمر قبعته ونظارتيه السوداوين ويعلق غيتاره على كتفه وينطلق بخطوات رتيبة نحو الحانة إياها، يدوس على الرصيف المبلل بالمطر إياه، ويمر بأعمدة الإضاءة الكابية إياها، وكعادته ينتحي جانباً هناك في الزاوية إياها، مولياً ظهره لرواد الحانة، ملتحفاً بالضباب ودخان السجائر، حاضناً غيتاره وغرابته في ذلك اللامكان المموّه بالغرائبية ونكهة التعب.بعد دندنات قليلة ينطلق صوته من فجوةٍ ما وراء الحنجرة، عذباً ومعذَّباً بالأسئلة، وبكلمات هي أقرب للغة الشارع، ولكنها – ويا للبداهة - تنكش فيما وراء ظواهر الأشياء الباردة المكررة، باحثة – بيأس – عن فحوى وغاية.في طريق العودة إلى مسكنه المتداعي الملقى على قارعة الفاقة، لا يحتاج «رودريغاز» أن يطيل النظر في ملامحه المكسيكية أمام زجاج المحال المتسخ، أو يقف طويلاً عند تحليل هويته الأميركية الملتبسة، فهو لا يعدو كونه عامل بناء يقضي سحابة نهاره في إنهاك الجسد النحيل المتقشف، ينهكه بحرفنة ورغبة، ليتفرغ مساءً للفن الأكثر التصاقاً بمزاجه المسترخي المتأمل، حين تحيطه في تلك الحانة الغبطةُ وأشباهُ الغرباء والأصدقاء.وهو وإن عبَرَتْ الملابسات القدرية طريقه ذات يوم من عقد السبعينيات في القرن الماضي، وهيأت له أن يسجل ألبوماً أو اثنين يتيمين لأغنياته المتفردة التي لم يعرفها إلا القلة، فإن الملابسات القدرية ذاتها عادت وخاصمته طويلاً، وطويلاً جداً، ربما لعشرين عاماً، ليظل حيث هو، «رودريغاز» الشبح النحيل المتقشف الذي يعيش على هامش الحياة، بل في أشد منعطفات دروبها خفوتاً ولا مبالاة. ثم ازدادت مقاديره جفوة حتى أشيع أنه مات أو أحرق نفسه أو انتحر في ظروف غامضة!ويبدو أن «رودريغاز» رغم اطمئنانه لموهبته الجميلة، فإنه كان يعيش الحياة بفلسفته الخاصة، كما عاش غريب «كامو»، بلا انتظار ولا توقعات ولا مخاوف، وبشيء من البساطة والاستخفاف، وبكثير من اليقين بضرورة التسليم بما هو موجود والاستسلام لإيقاع الأيام الرتيبة، لتأتي كيفما تأتي.كان كالصياد الذي ألقى سنارته في نهر رائق وغفا باستسلام كطفل، ولم يكن يعنيه الصيد ولا السمك، بقدر ما كان يمارس يومه برتابة وتؤدة. لم يكن يدرك «رودريغاز» وهو في وضع الاستسلام لرتابة أيامه أن الطيور التي أطلقها منذ عشرين عاماً وربما نسيها، سوف تعود له كالحمام الزاجل محمّلة بالشهرة والمال والصيت الذي سيمتدّ عبر البحار، وأن أغنياته التي كان يدندنها في تلك الحانة المنسية المملوءة بالدخان والضباب في مدينة «دترويت» الأميركية، سوف يعشقها بعد عشرين عاماً آلاف المعجبين في بلد ناء مثل جنوب إفريقيا، بل يتحوّل لديهم – هذا المغمور الفقير المنسي – إلى أيقونة فنية نادرة، وأمثولة محفّزة على التمرد والرفض لواقعهم السياسي والعنصري الفاسد. وكان وراء إعادة اكتشافه اثنان من عشّاق فنه بعد رحلة بحث جادة ومضنية.حين حطت الطائرة بـ»رودريغاز» في كيب تاون، في ضيافةٍ انتظرها جمهوره طويلاً، لم يكن المغني المغمور يصدق أن هناك ما يجاوز ألفاً وخمسمئة متفرج من معجبيه في انتظار طلّته وأغنياته التي حفظوها عن ظهر قلب. كانت الحقيقة أكبر من أن يستوعبها خياله البسيط وطموحاته المتقشفة، وكان هو هناك تحت الأضواء وعلى مسرح العرض، يقف هادئاً مطمئناً يغرغر بألحانه المحببة وكلماته البسيطة المتسائلة، كأنه لايزال في تلك الزاوية من تلك الحانة المنسية في مدينة الدخان والمعدن.في اللقاءات الإعلامية النادرة التي أجريت مع «رودريغاز» بعد لأي وتمنّع، كان لا يتحدث إلا ببضع عبارات مبتسرة ومتلكئة، يصدرها وهو محتمٍ بنظارتيه السوداوين وقبعته التي تخفي نصف وجهه. كان لا يجيد الحديث ولا التظاهر به كما يبدو. عاد إلى أميركا بعد جولات فنية ناجحة ليسكن ذات البيت المتداعي الملقى على قارعة الفاقة، وليوزع الأموال الكثيرة التي كسبها على بناته الثلاث وأصدقائه، وليعيش كما كان على هامش الحياة متدثراً بالظل واللامبالاة.......................(شكراً لملتقى سين scene السينمائي، وعرضه للفيلم الوثائقي: Searching for sugar man، الذي فاز بعدة جوائز متميّزة، وكان بطله المغني الأميركي المغمور رودريغاز. وهذا المقال عبارة عن قراءة في شخصيته الإنسانية من منظور شخصي).
توابل
البحث عن «رودريغاز»
03-06-2014