أدرك الكاتب الصحافي الكبير مصطفى أمين أن قانون تلك الفترة (1947) يفرض عليه أن يكتب عن {المدينة الفاضلة} التي لا يوجد فيها فارق بين الغني والفقير أو {الباشا} والخفير، فما كان منه سوى أن كتب قصة فيلم {فاطمة} طبقاً للمطلوب. تدور الأحداث في حارة سماها {الأمراء}، والأبطال اختارهم وفق معايير خاصة للغاية، فالممرضة {فاطمة} (المطربة أم كلثوم) تتفانى في خدمة نساء ورجال الحارة وأطفالها، كما تحنو على {القرداتي} وتعطف على {الشحاذ}، والكل يبادلها الحب، ويتفاءل بإطلالتها، ويُثمن تفرغها لتربية ابن شقيقها يتيم الأب والأم، وتحملها مسؤولية الإنفاق على أمها (فردوس محمد).

Ad

 منذ الوهلة الأولى، يرصد المخرج أحمد بدرخان هذا المجتمع {اليوطوبي} من خلال لقطة تسجيلية عامة للقاهرة القديمة تصاحبها أغنية {يا صباح الخير ياللي معانا} لأم كلثوم، لكنه يكاد يقدم ترجمة حرفية لكلمات الأغنية من دون إبداع على الإطلاق، فالمقطع الذي يقول {الكروان غنى وصحانا} تُقابله لقطة لصندوق عصافير، ومقطع {والشمس طالعة وضحاها} نرى بعده صورة للشمس وهي تخترق السحب والغيوم، ومن ثم كان طبيعياً أن يلي مقطع {والطير أهي سارحة في سماها} مشهداً لأسراب من الطيور وهي تُحلق في السماء، وهو أسلوب بدائي للغاية، بل طريقة مدرسية، تعكس شكل السينما في تلك المرحلة!

تغادر {فاطمة} الحارة إلى سراي {الباشا} (سليمان نجيب) لأجل تمريضه فنرى الوجه الآخر للمجتمع، حيث الرجل الارستقراطي، عصبي المزاج و{الدكتاتور} الذي يرى نفسه الآمر الناهي ولا تنبغي مراجعته أو معارضته، وشقيقه {فتوح} (حسن فايق) عديم الشخصية، بينما يبدو الثالث {فتحي} (أنور وجدي) لطيف المعشر ولكنه {دون جوان} يسعى إلى ضم الممرضة {فاطمة} إلى نسائه ظناً منه أنه يستطيع شراءها بالذهب والمال، ولما يفشل مخططه يقرر الزواج منها مدنياً، بعد أن يوافق على الإقامة في حارة  {الأمراء}!

تكريس المصالحة بين الطبقات الاجتماعية، والإيحاء بأن الفوارق الطبقية تكاد تكون معدومة بينها، رغبة سيطرت على الكاتب مصطفى أمين بك، حسبما لقبته عناوين الفيلم، لكن لم يكن من المقبول الوصول إلى الرسالة بشكل مباشر، لذا لجأ إلى ما يُشبه التسويف الدرامي؛ حيث يتملك {فتحي» الحنين إلى حياة الرفاهية في كنف شقيقه، وليالي المجون في صحبة رفاق السوء، ويضيق ذُرعاً بصخب الأطفال في الحارة، وزوجته التي لا تتوقف النساء عن الحج إلى بيتها، ويتخذها ذريعة للعودة إلى سراي شقيقه {الباشا»، الذي يُطالبه بإنكار زواجه من الفتاة ما يضطره إلى العودة إلى الحارة، وفي نيته سرقة ورقة الزواج العرفي. غير أن وكيل المحامي {فصيح» (محمد كمال المصري) يرتاب في عودته، ويتعمد نسخ العقد. لكن صاحب المطبعة الأجنبي يُسرب الوثيقة الأصلية إلى {الباشا»، الذي يستغلها في إحباط الدعوى القضائية التي رفعتها {فاطمة» لانتزاع اعتراف رسمي بزواجها، ويتهمها بأن مسلكها دنيء، وذات ماض ملوث، وأنها نصبت شباكها على شاب من وجهاء القوم. وبعد الحكم عليها بالسجن سنة مع الشغل، وفي جلسة ما قبل التنفيذ، يستيقظ ضمير {فتحي} ويعترف بزواجه من {فاطمة}، وأبوته لابنها، ويُصر على العودة معها، وأهل الحارة، إلى الجذور والأصالة، بينما تغني {فاطمة} بفرحة {نصرة قوية}!

من {يا صباح الخير ياللي معانا} إلى {نصرة قوية}، يحفل الفيلم بما يقرب من تسع أغان من تأليف بيرم التونسي وأحمد رامي، وألحان رياض السنباطي وزكريا أحمد، يجد المخرج بدرخان مبرراً درامياً لها، وإن عابه طغيان الشكل التقريري، والأداء التمثيلي المبالغ فيه، وسذاجة بعض المواقف، والنبرة الخطابية في تناول الأفكار الرجعية والعصرية، والتغني بشرف وكرامة الفقراء. لكن يُحسب للفيلم اعترافه المبكر بالزواج المدني أو العرفي، مثلما اتسم حوار بديع خيري بالطرافة، والتحضر (أهل الحارة يخاطبون أم كلثوم: {صباحك مشمول بالسعادة} فترد عليهم: {صباحكم نادي})، واستثمار عبد الحليم نصر للتصوير بالأبيض والأسود لإلقاء ظلال درامية على المكان والشخصيات، بينما تتجلى موهبة كمال الشيخ في ضبط إيقاع الفيلم من خلال مونتاج دقيق أحكم قبضته على الفيلم بالكامل، وأضاف إليه كثيراً، وهو ما فعله حلمي رفلة، الذي أصبح مخرجاً في ما بعد، عبر ماكياج بسيط لا مكان فيه لبهرجة أو مبالغة.

{فاطمة} آخر فيلم قامت ببطولته فاطمة إبراهيم البلتاجي الشهيرة بلقب {أم كلثوم}، مذ شاركت في بطولة أول فيلم بعنوان {وداد} (1936)، وأتبعته بأفلام {منيت شبابي} {دنانير}، {عايدة} و{سلامة}. وربما لهذا السبب كانت مقنعة بصورة كبيرة، وهي تؤدي شخصية {فاطمة} ابنة الحارة المصرية، التي تعرف التقاليد وتتباهى بجذورها وتصون كرامتها، وتبذل روحها لأجل أسرتها، وإن لم تتخل، كعادتها، عن تكريس صورتها المثالية في أذهان جمهورها!