في سياق احتفاء الصفحة بسينما الأبيض والأسود ومرحلتي الأربعينيات والخمسينيات وجدتني مدفوعاً إلى التوقف عند فيلم {معلهش يا زهر}، إنتاج آسيا وإخراج بركات، بعد ما رأيته أنموذجاً لهذه السينما الجميلة، التي كانت تنطق سحراً وإبهاراً؛ فالفيلم يحفل بالمشهيات الفنية والدرامية كافة التي تجعل منه عملاً كلاسيكياً بامتياز قد يبدو متأثراً بالمذهب الواقعي الفرنسي، لكن فيه بعض ملامح الواقعية الإيطالية الجديدة.

Ad

يبدأ فيلم {معلهش يا زهر} بلقطة عامة تستعرض مدينة لم يسمها، وإن كنت تُدرك فوراً أنها القاهرة ببناياتها الشاهقة التي لم تكن موجودة في تلك الفترة (1950) في أي مدينة أخرى في الإقليم المصري. وبانتهاء الاستعراض يظهر صوت {الراوي}، الذي كان معلماً للسينما آنذاك، ليحكي عن {المدينة التي استيقظت، ومثل كل مدينة يأتي عليها النهار فيحمل إلى ملايين الناس آمالاً جديدة، وعزماً جديداً} ويواصل: {في كل حي من أحيائها بيوت تبدأ في السعي وراء الرزق، وفي كل منزل ربة دار تفتح النوافذ للنور، وللحياة، وبجوار كل سرير منبه يُعلن بدء جهاد جديد ينتزع رب العائلة من أحلامه ليواجه ما يدخره له يومه من مشاكل ومسرات}، ومع كل جملة تقدم الكاميرا تفسيراً بالصورة إلى أن تستقر عند أسرة {صابر أفندي} (زكي رستم) الموظف البسيط الذي يعيش سعيداً مع زوجته {اعتدال} (ميمي شكيب) وابنته {نجفة} (شادية) وابنه الصغير {وفا} (الطفل حمادة عبد اللطيف) فالأسماء، في الفيلم الذي كتب له بركات القصة والسيناريو مع يوسف عيسى فيما تولى صياغة حواره أبو السعود الأبياري، لها دلالة لا تخفى على المتلقي؛ فالبطل {صابر} فعلاً على الظلم الذي يتعرض له في وظيفته، على يد رئيسه (استيفان روستي) وزملائه، والزوجة {معتدلة} السلوك، رغم ما يوحي به مظهرها وأنوثتها، بينما الابنة {نجفة} البيت وسراجها المنير، وحبيبها {حسني} (كارم محمود) حسن الشكل والهندام بما لا يوحي أبداً أنه {بقال} بينما الطفل نتاج {الوفاء} بين الرجل وزوجته!

{حدوتة} بسيطة يمكن تلخيصها في سطور قليلة عن {صابر}، الذي أنصفه المفتش {زهير} (سراج منير) الجار القديم لزوجته، ورد له اعتباره، وهو الموظف الخلوق، الدؤوب والمجتهد، الذي لم يشك يوماً أو يتضرر مما يفعله به زملاؤه، لكن إنصافه أثار غيرة الزملاء وحقدهم،الذين لم يجدوا غير زوجته ليشككوا في أخلاقها، ويستبيحوا عرضها، وعندما ظهرت الحقيقة رفض العودة إلى وظيفته، واتجه إلى العمل الحر، الذي لم يقتنع به يوماً؛ بدليل رفضه اقتران {حسني} بابنته {نجفة} لأنه غير موظف، ولا يقبض راتباً كل شهر!

غير أن المخرج بركات انطلق من {الحدوتة} ليبث رسائل أخلاقية واجتماعية عدة؛ مثل: حث المجتمع على ضرورة إعادة النظر في مقولة {إن فاتك الميري اتمرغ في ترابه}، ونبذ الوساطة في العمل، وإنصاف الأكفاء والمجتهدين، والثناء على الصابرين، الحامدين والشاكرين ربهم، وهي النبرة التي كانت شائعة في سينما الأربعينيات والخمسينيات، لأجل تكريس الطبقية، والحيلولة دون قيام الفقراء بثورة ضد الأغنياء، بحجة أن الله كتب عليهم ما هم فيه، والخروج عنه يعني إغضابه، وهي النظرية نفسها التي توحي لمتابع أفلام تلك الفترة (قبل قيام ثورة 23 يوليو 1952) بأن العلاقة بين الفقراء والأغنياء كانت على خير ما يرام؛ فالمفتش صاحب الجاه والهيبة والنفوذ يتذكر جارته القديمة، ويتعاطف مع زوجها، ويسعى إلى إصلاح أحوالهما الاقتصادية المتردية، ليس لأنه شرير أو طامع في جسدها، كما جرت العادة بعد ذلك، بل لأنه دمث الخلق و{ابن أصول} يحفظ العشرة القديمة!

في فيلم {معلهش يا زهر} وصف دقيق لملامح الحياة في حقبة الأربعينيات، وللطبقة المتوسطة بشكلها المسالم، وسلوكياتها المتحفظة، وتقاليدها الصارمة، ولولا الأغاني الأربع التي لم يكن لها أي داع سوى استغلال وجود المطرب كارم محمود والمطربة شادية ومحاولة توظيفهما في {دويتو} غنائي، لكانت النتيجة أفضل بكثير؛ خصوصاً أن قيمة الفيلم الحقيقية تكمن، في رأيي، في إعادة اكتشاف الممثل المخضرم زكي رستم، وتقديمه في شخصية جديدة لم يألفها الجمهور؛ حيث أظهر قدرة كبيرة على تلوين انفعالاته بين الموظف المغلوب على أمره، القانع بمصيره، والسعيد لأن الله كافأه على صبره، وجهده، ثم المقهور لأن ابنته هربت مع حبيبها، وهي فضيحة في عرف الحارة المصرية، ووصمة تطارد الأب طويلاً. لكن بركات المثالي، تجاهل هذا كله، ودفع {نجفة} إلى العودة إلى أحضان والدها، ومعها حفيده، في نهاية مفتعلة، وغير منطقية، كونها تتعارض وتقاليد وموروثات تلك الفترة، رغبة منه في الوصول إلى النهاية السعيدة السائدة في سينما تلك الحقبة، واستكمال العظة الأخلاقية التي اختتم بها الفيلم، وتهيب بكل أب أن يُكمل رسالته التربوية، ويعلم حفيده كيف يبتسم للحياة!