حكاية «المسخ» فانتازية رمزية... ذلك أن ما يحدث لبطلها غريغور سامسا إنما هو وضع يفلت من قوانين المنطق... فسامسا يستيقظ ذات صباح ليجد أنه قد تحول إلى صرصار أو حشرة أو «هامة» كبيرة أو بقة، فيحاول التعامل مع الحادثة بعقله، وأن يجعل لنفسه مخرجاً منها أو حولها. فهو الموظف المبتئس بوظيفته والمرهق وجودياً، تحت ضغط احتياجات أسرته وأوامر والده، يتحول من مصدر احتفاء إلى مصدر ازعاج.
يشعر غريغور سامسا بأن مظهره الجديد غير المنطقي يثير اشمئزازاً من حوله خصوصاً أهله، وينتهي به الأمر إلى الانزواء رعباً تحت سريره غير راغب في أن يراه أحد بعد الآن. وهو في حالته الجديدة تلك لا يلقى في الحقيقة حناناً من أحد باستثناء خادمة عجوز تشفق عليه وتتابع التعامل معه كانسان، حاملة إليه يومياً قشر تفاح يتغذى به، ومصرّة على تبادل الحديث معه في كل مرة وكأن شيئاً لم يكن.يستنكر سامسا حياته العقيمة، لكن حالته تلح عليه بأن ما يعيشه («لم يكن حلما»). إنه في طبيعة الحال لن يخرج من غرفته ولن يدع أحداً يدخل، فيجزع والداه واخته لتأخره عن عمله، ويأتي رئيس المحاسبين ليحقق في تباطوئه، ومع ذلك يؤخرهم، محاولاً بصوته المتغيّر أن يسترضيهم ويطمئنهم ولكن «الرئيس يقول: ليس هذا صوتاً بشرياً».وحين يهمّ رئيس المحاسبين بالرحيل يقول سامسا: «... إلى أين تمضي، سيدي، إلى المكتب؟ هل لك أن تشرح شرحاً صادقاً كل ما ترى؟ فقد يعجز المرء إلى حين، ولكن هذه هي اللحظة المناسبة لأن تذكر خدماتي السابقة (...)، أنا التزم مخلصاً خدمة الرئيس، وأنت تعلم ذلك علم اليقين. أضف إلى ذلك أن عليّ أن أعيل والديّ وأختي. أنا في مصاب أليم، لكني سوف أتعافى». إلا أنه يخفق في التأثير على رئيس المحاسبين الذي ينسحب فيدرك غريغور سامسا أنه لا يجوز، في أي حال، أن يسمح له بالمضي وهو في تلك الحال الذهنية، إذا أراد لمركزه في المؤسسة الا يتعرض لابلغ الخسران. وسامسا إذ يرضى بذلك الوضع يستنكف عن الخروج من مخبئه. ولكن ذات يوم يجتذبه صوت عزف على الكمان فيخرج متجهاً نحو الضوء الآتي من الباب المفتوح، محاولاً الوصول إلى الصالة التي اجتمعت فيها العائلة. ما إن يصل حتى يلاحظ رعب أهله إزاء منظره الخارجي... بل يستبد بوالده الغضب ويرميه بتفاحة تكسر له ظهره... فيعود الى مخبئه مقصوم الظهر.استخدام الوهمكان غريغور سامسا يعمل بائعاً متجولاً لصالح إحدى الشركات (يذكرنا هنا بالشخصيات اليهودية)، وقد اضطر للعمل لتحمل الأعباء المادية لعائلته منذ أفلس أبوه وأصبح عجوزا... لطالما شعر بالسعادة بعدما قدم لاخته الشغوفة بالموسيقى آلة كمان لتعزف عليها... كذلك وفر لها المال اللازم لتدفع ثمن دروس الموسيقى والعزف. ولكن مع تحوله وانمساخه تلاشت أهميته بالنسبة إلى عائلته.يستخدم كافكا الوهم بوصفه إرادة المسخ، عندما يظهر سامسا كضحية، وتوضح القصة الطرق التي يمكن أن تدمر العائلة باسم الواجب، مرة أخرى نجد موضوع السلبية وعدم إرادة الحياة في العالم.الرواية التي تجري أحداثها في غرفتين فحسب، تلقي أمام القارئ تساؤلات حادة عن وجود الإنسان في هذه الحياة، الإنسان الذي وجد نفسه فجأة في عالم ليس من اختياره. ومع ذلك فهو مرغم على التعايش معه، وفق طاقاته المحدودة. أذاً تحمل سؤال الوجود والكوابيس في الحياةمرحلةكتب كافكا روايته في أواخر 1912، خلال فترة واجه فيها صعوبات لتحقيق تقدم في روايته الأولى. في 17 نوفمبر 1912، كتب إلى خطيبته فيليس باور أنه كان يعمل على قصة {جاءتني في رقادي البائس على الفراش}. وظلت تطارده. كان يأمل في كتابتها بسرعة، ولم يكن متأكداً كم سيكون طولها، عندما شعر أن القصة ستكون أفضل لو استطاع كتابتها في بنية واحدة أو اثنتين. لكن كان ثمة انقطاعات كثيرة، واشتكى لفيليس مرات عدة من أن التأخير قد يضر بالقصة. بعد ثلاثة أسابيع، في 7 ديسمبر، انتهى منها، رغم مضي ثلاث سنوات أخرى قبل نشرها.قرأ كافكا المقطع الأول من الرواية بصوت عال لأصدقائه في 24 نوفمبر 1912، ومرة أخرى في 15 ديسمبر. بدأ الناس يتحدثون عنها، وحصل كافكا على التماس من الناشر كورت وولف في مارس 1913 بناءً على توصية من صديق كافكا، فرانز فيرفيل. وأعرب بعض المحررين عن اهتمامهم، لكن مرت أشهر قبل أن يعيد كافكا كتابة المخطوطة لتكون جاهزة للنشر، ومن ثم اندلعت الحرب العالمية الأولى، ما تسبب في مزيد من التأخير. نشر كافكا القصة في مجلة {الأوراق البيضاء} في أكتوبر 1915، وظهرت بعدها في ديسمبر 1915 (رغم أن الرواية مؤرخة 1916) كمجلد ضئيل نشرته دار نشر كورت وولف في لايبزيغ.كانت {المسخ} واحدة من الأعمال القليلة التي نشرها كافكا خلال حياته، ما يعني، بحسب النقاد، أنها نفدت من ذلك المصير «المظلم» الذي كان لبعض ما خلفه كافكا من أعمال، على يدي صديقه ماكس برود، الذي هاجر باكراً الى فلسطين حاملاً معه تراث صاحب «المسخ» وناشراً إياه على هواه، ومفسراً إياه كما يحلو له.تأثيرتمت دراسة {المسخ} في الجامعات والكليات في العالم الغربي، واستغرقت دراستها ولا تزال ألاف الصفحات والأطروحات، وأثيرت سجالات حادة حولها. وصفها الكاتب البلغاري إلياس كانيتي بأنها أحد الأعمال القليلة الرائعة، وأحد أفضل أعمال الخيال الشعري المكتوبة في هذا القرن.ولكافكا تأثيرٌ عظيم بين كُتّاب القرن العشرين، ابتداءً بألبير كامو وانتهاءً بخورخي لويس بورخيس. وقدّ تمّ ابتكار مصطلح {الكافكاوية} الذي يستخدم للدّلالة على وصف الأحداث الغريبة لدرجة السّيريالية نسبةً إليه. كان لرواية {المسخ} الأثر الأكثر عمقاً على الإنتاج الأدبي لغابرييل غارسيا ماركيز الذي يستشهد بالقصة كمصدر إلهام، فقد نشر ماركيز عام 2003 مذكراته {عشت لأروي}، ويصف الليلة التّي جاء زميله في السكن بثلاثة كتب كان قد اشتراها للتوّ قائلاً: {لقد أعارني أحدّ هذه الكتب عشوائياً لمساعدتي على النّوم كما أفعل بالعادة، ولكنّ حدث العكس هذه المرة. لم أنم بعدها مطلقاً بسكينتي السابقة. كان كتاب {المسخ} لفرانز كافكا، بمثابة اتجاه جديدٍ لحياتي من سطره الأول القائل {استيقظ غريغور سامسا من أحلامه المزعجة صباح يومِ ما ليجد نفسه في سريره متحولاً إلى حشرة عملاقة}، حيث يعد هذا السّطر اليوم أهم ما ورد في الأدب العالمي.ويضيف ماركيز: {عندما انهيت قراءة المسخ، شعرت بشوقٍ لا يقاوم للعيش في ذلك الفردوس الغريب. يومها حملت الآلة الكاتبة المحمولة محاولاً كتابة شيء من شأنه أنّ يشبه بطل كافكا المسكين يتحول إلى صرصار ضخم}.ونلمس أثر المسخ في أعمال راوي الحاج وصموئيل بيكيت وميلان كونديرا وفيليب روث الذي كتب رواية قصيرة بعنوان {الثدي} (1927)، وفيها يتحول بطلها ديفيد كيبش إلى ثدي أنثوي، بالإضافة إلى أعمال عربية وعالمية وقعت أسيرة هذه الرواية الصغيرة التي تحولت أيقونة أدبية عابرة للقارات، مع أنها ليست أجمل أعمال كافكا لكنها الأكثر رمزية.
توابل
«المسخ» لكافكا في ترجمات عربية جديدة
07-04-2014