لن يُصدق الناس حديث الحكومة عن ضرورة ترشيد الإنفاق ما لم يروا خطوات عملية وجادة للتصدي للفساد بصوره المختلفة، والذي يكلف الدولة أضعاف أضعاف الإنفاق الجاري، وهذا لن يتحقق ما لم تتسع المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار وإدارة شؤون الدولة والمجتمع.

Ad

فمن المؤسف أن السلطة الشعبية "شعبية الحكم" قد تقلصت في الآونة الأخيرة إلى حدودها الدنيا، بل إنها أصبحت شكلية منذ العمل بمرسوم الضرورة المتعلق بـ"الصوت الواحد". هذا أولاً، أما ثانياً، فإن مسؤولية حل مشكلة العجز المالي المتوقع تقع على عاتق من تسبب فيه، أي من بيده السلطة، فالمسؤولية بقدر السلطة، إذ ليس من المقبول تحميل تبعات العجز المالي لمن لم يكن طرفاً في حدوثه ولم يشارك في اتخاذ القرارات المتعلقة بالموازنة أو في رسم السياسات العامة.

والطريف هنا أن من يتحدث بحماسة منقطعة النظير هذه الأيام عن ضرورة ترشيد الإنفاق الجاري ويبذل مجهوداً إعلامياً وميدانياً أيضاً لشرح تكاليف الدعم الاجتماعي الذي يستفيد منه أصحاب الدخول المتوسطة والدنيا لا يطرح سوى أرقام إجمالية لا تُبين تفاصيل الإنفاق الجاري وتوزيعه أو نوعية الدعم، فهناك كما ذكرنا في مقالات سابقة، إنفاق جار غير مستحق، وهناك أيضاً دعم يستفيد منه من ليس بحاجة إلى الدعم.

أضف إلى ذلك أن من يتحدثون بإسهاب في الأونة الأخيرة عن ضرورة ترشيد الإنفاق الجاري سواء المؤسسات الدولية كالبنك وصندوق النقد الدوليين أو الحكومة أوبعض الصحف والكُتاب لا يقولون شيئاً له معنى عن الأبواب الأخرى في الميزانية رغم تضخمها، ولا يوضحون للناس أين ستذهب الإيرادات الجديدة؟ ومن سيستفيد منها في ظل التوجهات الحالية للموازنة العامة؟!

ليس ذلك فحسب، بل إنهم لا يتطرقون البتة إلى حجم الفساد وتكاليفه الضخمة بالرغم من أن الفساد بصوره المختلفة، خصوصاً الفساد السياسي، باهظ التكاليف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، إذ إنه يقف عائقاً أمام تنمية المجتمع ويحرمه من التقدم ويستنزف ثروته، ويساهم في تهميش قطاعات شعبية واسعة وإفقارها، ناهيكم عن أن بعض أوجه الإنفاق الجاري والدعم غير المستحق لم تكن لتحصل لو لم تكن ثمناً للتغطية على الفساد السياسي وضمان استمراره.

وعلى هذا الأساس، وبالرغم من أهمية تنمية الإيرادات العامة وضرورة ترشيد الإنفاق من أجل إصلاح اختلالات الموازنة العامة، فإن ذلك لن يتحقق بشكل صحيح وعادل في ظل استشراء الفساد السياسي وضيق قاعدة المشاركة الشعبية بإدراة شؤون الدولة والتوجهات الحالية المنحازة إلى المالية العامة؛ لذلك فالإصلاح السياسي والديمقراطي أولاً.