أدولفو كاساريس المولود في العاصمة الأرجنتينة بوينوس أيرس عام 1914، قدَّم يوماً إجابة لافتة عن السؤال {متى بدأتَ الكتابة وكيف} قائلاً: {من دون شك قبل أن أبدأ القراءة... أود القول قبل أن أكتشف الأدب}. فقد كتب روايته الأولى {إيريس ومارغريتا} وهو بعد في الحادية عشرة من عمره، كانت الرواية انتحالاً لــ Petit Bob للكاتبة الفرنسية سيبيل ايمي ماري أنطوانيت غابرييل، التي كانت تكتب تحت الاسم المستعارGYP. وجلّ هدفه كان آنذاك أن يُفتن قريبة له كان مغرماً بها. ليكون الحب هو الدافع إلى الكتابة وهو المراد منها.
في عمر الرابعة عشرة، كتب قصّته الأولى {الزهو أو مغامرة مريعة}، ولم تمر سنة حتى تمكَّن بفضل نقود والده من نشر كتابه الأول {تمهيد} وهو في الخامسة عشرة، ليندم بعد ذلك على نشره وينكره.هجر الكاتب الجامعة نهائياً بعدما حاول دراسة القانون والفلسفة والآداب وأخفق في إتمام أيّ منها. لكنّ تحدّره من عائلة بورجوازية ميسورة ولأب كان كاتباً محبطاً ساعداه في التفرّغ لكتاباته والتحصّل على قراءات معمقة للآداب العالمية. في عام 1932، بحسب أحمد يماني، تعرّف إلى بورخيس وجمعتهما صداقة نادرة أدبية وشخصية، أطلق عليها البعض مسمى {بيورخيس}. وكتبا معاً أكثر من خمسة كتب بدءاً من عام 1942 وحتّى عام 1977.عبر {اختراع موريل} عام 1940، تحوّل كاساريس إلى أحد أهمّ كتّاب أدب الفانتازيا في أميركا اللاتينية، حتى إنه أعتبرها أوّل إصدار جادّ له، ثم أعقبها عام 1945 برواية {خطّة هروب} والتي تشكل امتداداً مّا لــ {اختراع موريل}، إحدى أكثر الروايات أصالة في القرن المنصرم والتي ما زالت تثير تساؤلات كثيرة بعد مرور حوالي سبعين عاماً على نشرها.ويبسط العشق جبروته في الرواية عندما يعمد عالِم مهووس بزوجته إلى تخليدها، بعد رحيلها، بالصورة والوهم، بأن يصنع آلة تعرض صورتها كل مساء وهي جالسة على صخرة أمام البحر وعيناها مشدودتان إلى الأفق. ويتضاعف التخليد هنا مع العشق، بهروب شخص إلى الجزيرة المعزولة التي كان يرغب العالم في الاستفراد فيها بصورة معشوقته {الخالدة}، ويأخذ الهارب الأخيرة على أنها حقيقة فيسقط صريع عشقها، ثم لا يلبث سحر الصورة أن ينهار حين يقترب منها ويلامس {جسدها} فيجده من نور فحسب ويُصاب بالجنون.تتوسَّل الرواية الخيال العلمي، ومستفيدةً من الرواية البوليسية تطرح مسائل عدة من بينها الحب والوحدة والموت والخلود. والحال أن إحدى المسائل المهمة في الرواية، والتي تبدو حاضرة بشكل آني، وهي إلى جانب وهم الصورة، مسألة العالمين الواقعي والافتراضي، وهو ما جعل الناقد أدولفو باسكيث روكا، في دراسة لافتة تتناول {اختراع موريل}، يرى أنها رواية تأسيسية لأدب استباقي حيث تحضر فيها رحلات الخلود وتكرارات الحياة وأرشيف الصور والنسخ والهولوغرام، مضيئة النظام الأنطولوجي للصورة وهي مسائل إشكالية تناولها، في زمن لاحق، منظرون للصورة أمثال جان بودريار وبول فيريليو وسوزان سونتاغ، مانحة موضعاً لتأمل الخطوة المعقدة للانتقال مما هو واقعي إلى ما هو افتراضي والذي يهدد فيه عالم الصور العالم الواقعي.تكرار وانفصالفي الرواية لعبة سردية تعتمد على الراوي وعلى ناشر مجهول يقدِّم تعليقات على بعض المواضع من الرواية، وتشكِّل جزءاً من الرواية نفسها وتدخل من صلبها، وهذا {الناشر} المفترض يمثل راوياً جديداً إلى جانب الراوي الأساس وكأن الكاتب أراد بذلك التأكيد على فكرتين تكتنفان الرواية بكاملها: التكرار والانفصال.ويرى البعض في كتابات كاساريس نوعاً من الجفاء وغياباً لـ «الحرارة الإنسانية». وتتأتى هذه الفكرة من عدم إيلائه الشخصية اهتماماً موسعاً، والبعد عن الغوص في عوالمها الداخلية مثلما هي الحال في الرواية السيكولوجية التي انتقدها كثيراً، كما فعل بورخيس. وردّ كاساريس بجدية ساخرة على هذا «الاتهام»: «عندما كتبت «اختراع موريل» و{خطة هروب» و{الحبكة السماوية» ندّد النقاد كثيراً بلاإنسانيتي، قالوا تفتقد هذه الكتب إلى الحرارة الإنسانية. وكنت متفقاً معهم. لقد كتبتها على هذه الشاكلة، ذلك أنني ارتكبت أخطاء عدة عندما تركت نفسي سابقاً لحرارتي الإنسانية. حينئذ قررت أن اتخذ مسافة وأن أكتب تلك القصص باحتراس. وعندما وجدت أن لدي حكاية شائقة اكتفيت بسردها. حتى لم أعد أتحصل سوى على حنكة الكتابة، لم أسمح لنفسي بإعطاء واقعية أكبر للشخصيات. عندما فعلت ذلك، رثوا لحالي قائلين إنني لم أعد أكتب روايات كـ{اختراع موريل» و{خطة الهروب»، وأنني كنت أتحول بشكل مقزز إلى إنساني».ترجمت {اختراع موريل} إلى ما يقرب من 20 لغة وانتقلت إلى السينما في فيلم عام 1974 للمخرج الإيطالي إيمديو غريكو. كذلك اقتبست عنها أعمال مسرحية وتلفزيونية وسينمائية كثيرة. ولأن أدولفو بيوي كاساريس يبقى كاتباً رئيساً للولوج إلى الأدب الأرجنتيني في القرن العشرين، من الخطأ أن نحصر قيمته، كما يفعل البعض، في اعتباره تابعاً لمواطنه الكاتب بورخيس.
توابل
«اختراع موريل} لأدولفو بيوي كاساريس... حضور الرواية في «غياب الإنسانية»!
30-06-2014