نحو حوار خليجي صحي وبنّاء
أحسنت دولة قطر بعدم انسياقها لردود الفعل المتسرعة، إثر قيام الشقيقات المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، ومملكة البحرين، بسحب سفرائها من قطر في إجراء غير مسبوق في تاريخ مجلس التعاون منذ تأسيسه قبل 33 عاماً.جاء قرار دولة قطر متسماً بالعقلانية والاتزان والنضج السياسي والحرص على روابط الأخوة، فلم تبادل إجراء الأشقاء بالمثل، ولم تسحب سفراءها التزاماً بقيم الأخوة وحفاظاً على المصالح الخليجية العليا، وفي الوقت الذي انزعج فيه الخليجيون من قرار سحب السفراء من قطر فإنهم أبدوا ارتياحهم للقرار القطري عدم الرد بالمثل، وقوبل القرار القطري بترحيب كبير من الرأي العام الخليجي والنخبة الثقافية والمغردين عبر وسائل التواصل الاجتماعي. حرصت دولة قطر على توضيح موقفها للشعب القطري، خاصة، وللخليجيين، عامة، في البيان الذي صدر عن مجلس الوزراء معبراً عن أسف قطر واستغرابها للبيان الصادر عن الأشقاء الثلاثة، موضحاً أنه لا علاقة للخطوة التي أقدم عليها الأشقاء بمصالح الشعوب الخليجية وأمنها واستقرارها، بل باختلاف في المواقف حول قضايا خارج دول المجلس، كما أكدت قطر موقفها للعالم أجمع في الكلمة التي ألقاها وزير خارجيتها د.محمد بن خالد العطية بمعهد الدراسات السياسية بباريس، موضحاً محددات السياسات الخارجية القطرية، ومؤكداً أن دولة قطر تنتهج سياسة خارجية مستقلة، من أبرز معالمها:
1- أنها لا تتبع "عقلية المحاور" السائدة في المنطقة، والتي يختار الأطراف بموجبها الانضمام إلى معسكر أو لآخر بشكل مباشر أو غير مباشر.2- أن استقلال السياسة القطرية أمر غير قابل للتفاوض.3- أنها تقوم على مبادئ وقيم لم تتغير على مر الزمن ويجري تناقلها من جيل لآخر.4- أنها تقوم بدور كبير في الشؤون العالمية والتواصل مع الدول الأخرى والتوسط في النزاعات والعمل على إنهاء النزاعات العنيفة ورعاية اللاجئين.5- أنها ملتزمة دعم حق الشعوب في تقرير المصير.6- أنها ملتزمة دعم تطلعات الشعوب نحو إحقاق العدالة والحرية.7- أنها تدعم الديمقراطيات الناشئة التي أعقبت الربيع العربي.8- أن قطر اختارت ألا تبقى على هامش التاريخ.لم يكن منتظراً ولا متوقعاً لدى الرأي العام الخليجي، إقدام الأشقاء الثلاثة على سحب سفرائهم، ولم يكن أحد يتمنى أن تصل الأمور إلى هذا الإجراء، هناك خلافات في الرؤى واختلافات في المواقف دائماً تحصل بين الأشقاء، هذه طبيعة الحياة وهكذا خلق الله تعالى البشر مختلفين في طبائعهم وعقولهم وأديانهم وقومياتهم ولغاتهم وثقافاتهم، وذلك لحكمة عليا، وضحتها في مقالتي السابقة "الانفتاح على المعتقدات" لبيان أهمية هذه الاختلافات وضرورتها لإثراء الحياة والارتقاء بها عبر التنافس الخلاق، كما أكدت أن فرض دين واحد أو ثقافة واحدة أو نظام سياسي واحد أو حتى "اجتهاد سياسي" واحد على الجميع، يناقض الإرادة الإلهية في تقرير حرية الاختيار للإنسان، وإذا كانت الاختلافات حتى في نطاق الأسرة الواحدة أمراً لا مفر منه، وهو من سنن الحياة، فإن المنهج السليم في معالجتها هو "الحوار العقلاني البنّاء" الذي يستهدف تعظيم جوانب الاتفاق ويهمش جوانب الاختلاف، انطلاقاً من القاعدة الذهبية للحوار "نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه". إن ما يجمع الخليجيين أكبر مما يفرقهم، وإذا كان لقطر اجتهادها السياسي الخاص المختلف عن اجتهاد الأشقاء الثلاثة تجاه قضايا داخلية أو خارجية معينة، فلا ينبغي لهذا الاختلاف أن يعكر صفو العلاقات، ولا ينبغي لنا أن نسمح له بإفساد علاقات ذات البين، علينا تفهم هذه الاجتهادات وتوظيفها لخدمة المصالح الخليجية المشتركة، على غرار ما هو حاصل بين دول الاتحاد الأوروبي، حيث توجد خلافات وتباينات في العديد من المواقف الإقليمية والدولية، لكن في النهاية هناك تنسيق فاعل، وقادر على توظيف هذه الاجتهادات بما يخدم مصلحة الشعوب الأوروبية. في تصوري أنه كان بالإمكان تفادي ما حصل، لو سبقه مزيد من التروي والتنسيق المتبصر للمواقف والاجتهادات وتغليب لغة الحوار الصحي البنّاء، فالمنظومة الخليجية وعلى امتداد 3 عقود، مرت بتحديات أكبر وأعظم داخلية وخارجية، لكنها أثبتت قدرتها على تجاوز كل تلك التحديات، ولعل أعظمها، حرب تحرير الكويت، والمشاكل الحدودية بين دول المجلس، وأبرزها حادثة مخفر (الخفوس) سبتمبر 1992 والتي قال عنها السفير عبدالله بشارة– أول أمين عام للمجلس- في يومياته الموثقة: أنها كادت تعصف بمسيرة المجلس، ولكن تم تجاوزها بحنكة وحكمة القادة الخليجيين الذين قادوا "سفينة التعاون" في بحر لجي متلاطم الأمواج، في وجه رياح هوجاء، لا عاصم منها إلا لطف الله تعالى ورعايته، وعبروا بها إلى بر الأمان، لينعم الخليج بما ينعم به اليوم من رقي وازدهار وتنمية شاملة ونهضة عمرانية وخدمات تعليمية وصحية واجتماعية مكفولة، ومناخ سياسي مستقر. لقد استطاعت المنظومة الخليجية، بفضل من الله تعالى وتوفيقه، العبور بمجتمعاتها لتصبح أكبر منطقة عربية منفتحة على العالم، والأكثر حيوية واستقطاباً للاستثمارات العالمية، والأكثر أمناً واستقراراً، هي "الواحة الآمنة" في عالم عربي مضطرب، نجح الخليجيون في مواجهة تحديات الأمس وأقاموا هذا الكيان التعاوني، مجسداً للعمل الجماعي وحامياً للأمن المشترك ومفعلاً علاقات التعاون والتكامل بما يقوي مناعة البيت الخليجي في مواجهة المخاطر والأطماع والتدخلات والأيديولوجيات المخربة. الخليج اليوم أكبر منطقة منفتحة يتعايش فيها أكثر من 200 جنسية بعاداتها وثقافتها ومعتقداتها، وعلى امتداد أجيال متلاحقة وفي ظروف معيشية صعبة، عاش الخليجيون مصالحة مع الذات والآخر، فتعاملوا مع مختلف الشعوب، تجارة وترحالاً ومصاهرة، دون انغلاق أو تزمّت، كيف نجحوا؟! بالإرادة والعزيمة، والعمل الجماعي وسياسة التسامح والانفتاح، وحكمة القادة، وأيضاً وهو الأهم "إسلام أهل الخليج" هذا الإسلام المتصالح مع نظامه السياسي الذي يرى السمع والطاعة لولي الأمر ومناصحته دون الخروج عليه والتظاهر ضده، هو الذي حصن الجسم الخليجي من آفات أيديولوجية فتكت بالآخرين. الخليج اليوم أمام تحديات خارجية وداخلية تختلف عن تحديات الأمس: 1- حليفنا التاريخي، انفتح على جارنا ووجه بوصلته نحوه، ويطالبنا بالتأقلم مع "التغييرات" في الساحة.2- صعود أيديولوجيات في بلاد الربيع العربي، ترفع شعارات "أسلمة المجتمعات" يهدف تغيير هوية الدولة الوطنية.3- جماعات عنف ترفع راية الإسلام وتكفر الدولة والمجتمع وترفع السلاح سعياً إلى دولتها الدينية.4- قوى خارجية تغذي الطائفية والكراهية والتعصب ولها أذرع متغلغلة في العمق الخليجي والعربي.5- قوى شبابية صاعدة، مختلفة عن جيل الأمس، لها تطلعاتها وآمالها في مستقبل أفضل.6- تفاقم الخلل السكاني الذي جعل من الخليجيين، أقلية وسط طوفان بشري وافد، عكس تأثيراته السلبية على جودة الحياة الخليجية ونوعيتها.هذه التحديات الجديدة لا طاقة لدولة خليجية بمواجهتها، بل تتطلب جهداً وتنسيقاً مشتركاً، لكن قبل ذلك نحن بحاجة إلى أجواء إيجابية ونيات صادقة لتقريب وجهات النظر ورأب الصدع، إننا اليوم أحوج ما نكون إلى مبادرات شجاعة لاحتواء الاختلاف الخليجي وعدم السماح بتصعيده، عبر إعلاء اعتبارات المصالح الخليجية العليا، وتغليب لغة الحوار العقلاني، في إطار من التفهم المتبادل للاجتهادات السياسية لكل طرف، دون فرض أو وصاية أو تهديد، فخليجنا واحد ومصيرنا واحد. قبل عقد قال بشارة: الخليج هو الجزء السليم الصحي في الجسم العربي، واليوم آمال الخليجيين معقودة على حكمة القادة في منع التصدع والحفاظ على الجسم الخليجي قوياً سليماً مزدهراً. * كاتب قطري