لم تكن تسعى إلى مجد شخصي أو منافسة كبار المطربات، ما دامت قد حجزت لنفسها مكاناً ثابتاً في الملاهي الليلية، وصنعت لنفسها جمهوراً خاصاً بها حتى أصبح الطلب عليها يتزايد يوماً بعد يوم، ورصيدها في البنك يتضاعف. كانت غريبة لكل من يعرفها حالة الرضا التي كانت عليها واعترافها الصريح بأنها لن تتجاوز المرحلة التي وصلت إليها، ولن تزيد عن كونها مطربة نصف مشهورة، كانت في حالة رضا تام عن النفس.

Ad

اسمها الحقيقي «حنين»، ومع هذا اختارت اسم إحدى بطلات الأساطير ليكون اسم شهرتها، ولم يكن يحلو لها إلا أن تتعامل مع المقربين منها باسمها الحقيقي بينما تركت لباقي خلق الله أن يتعاملون معها باسم الشهرة، لم يكن صوتها يرشحها للصعود إلى مرتبة نجمات الصف الأول في الطرب، كانت هي أول من يعرف هذه الحقيقة. لكن كانت في صوتها «بحة» ونبرة قلما أن يمتزج بها أي صوت آخر، تلك «البحة» وهذه «النبرة» كانتا مفتاح نجاحها المبهر بين زبائن الملاهي من الرجال، الذين كانوا يتسمرون في أماكنهم كلما اعتلت «حنين» خشبة المسرح وسحرت آذانهم وأيقظت رجولتهم ولحست عقولهم بأنوثة لا تصد ولا ترد.

 ولم تحقق حنين هذا النجاح الساحق بين النساء اللاتي كن يحضرن هذه الحفلات ويكتشفن أن هذه المطربة سحبت البساط من تحت أقدامهن فضاعت أناقتهن وبهت جمالهن وانصرفت العيون عن أنوثتهن. ومع هذا لم تكن حنين سعيدة في حياتها، لا شيء من متع الحياة ينقصها، مال ونصيب من الشهرة وشقة مطلة على نيل القاهرة الساحر، وسيارة أحدث طراز تتغير مع بداية كل عام، خدم وطهاة ورجال حراسة، ملابس توافق أحدث صيحات الموضة، وتتناول طعامها من أفخر المطاعم، وتنام على ريش النعام. لكن شيئاً ما كان ينقصها، وربما يؤلمها، والمؤكد أنه كان يشغل تفكيرها كلما خلت بنفسها، إنها الأمومة.

كانت «حنين» تعرف أن مملكتها  كفنانة وأنثى ستنهار يوماً، والعمر سيجبرها على الاعتزال بعد أن يتسلل الشيب إلى شعرها، وتضعف حركتها فوق المسرح وتسكن التجاعيد فوق وجهها، وتصبح في شقتها التي تشبه القصر وحيدة بلا أنيس. إن تزوجت ربما يهجرها زوجها، أو تنظر عيناه إلى امرأة أخرى وهي التي لا تقبل شريكة لها ولا ضرة. لكن الأمومة هي التي تعيش، والمرأة التي تنجب تعيش الحياة أكثر من مرة، ويمتد عمرها ما دام أبناؤها وأحفادها على قيد الحياة. العرسان الذين يطلبون يدها أكثر من الهم على القلب، لكنهم كانوا يريدونها كأنثى وهي تريد رجلاً يصنع منها أماً وتنجب منه ولداً أو بنتاً. رفضت حنين رجالاً كثيرين ولم يسل لعابها أمام هذا المليونير أو ذلك النجم الذي تهتف له جماهير الكرة في الملاعب، ولا ذاك العجوز صاحب المنصب الكبير الذي يبحث عن امرأة تبيع له شبابها بالثمن الذي تريده، رفضتهم جميعا ولم تندم ولم تراجع حساباتها، إلى أن جاءت الليلة الموعودة.

قرار خطير

الليلة الأولى التي لا تنساها حنين كانت حينما وقفت أمام المرأة لتضع اللمسات الأخيرة قبل أن تغادر شقتها إلى الملهى المتعاقدة معه لإحياء ليالي الأنس، ها هو الشبح المخيف يطل عليها والخطر الذي كانت تخافه يقترب منها. ربما هي الوحيدة الآن التي تدرك أن سنوات العمر بدأت تطبع بصماتها في أنحاء متفرقة من جسدها الأبيض. كانت تدرك أنها ما زالت تملك بعض الوقت، لكنه قد يكون آخر الوقت. اتخذت قراراً سريعاً أشبه بالقرارات الثورية، وهي التي كانت لا تقرر أمراً إلا بعد تفكير عميق وتردد وتروي ومراجعات وحسابات، هكذا تعلمت من ماضيها الذي تكره أن تتذكره حينما كانت عشوائية القرارات ومتطرفة العواطف. اليوم اختلف الزمن عن الماضي البعيد والحاضر القريب ولا بد من أن تستثمر الفرصة وتتوافق مع نفسها وتفتح الباب أمام طالبي الزواج قبل أن يأتي يوم تبحث هي فيه عنهم، فلا تجدهم.

خلال أسابيع قليلة وبسهولة تامة اختارت ثلاثة رجال من كبار الأثرياء لتنتقي واحداً منهم بعدما وافق الثلاثة على شروطها كافة. لكن جاءت ثاني الليالي الموعودة بعدما وقعت عيناها تلك الليلة على صاحب المائدة المنزوية في ركن من أركان الملهى. كانت تراه كل ليلة ويسترعي انتباهها شروده وانصرافه عن المسرح والراقصات والمطربات إلا أنه لم يلفت نظرها كما حدث الليلة بهذا الشكل، والليلة فقط شعرت برغبة ملحة في أن تحدثه، تقترب منه، تسمع منه ولو كلمة، تحظى منه ولو نظرة، شيء غريب لم يصادفها سابقاً، لكن لا غرائب في عالم النساء حينما يقع رجل في دائرة اهتمام امرأة.

طلبت حنين من النادل تحريات مكثفة وسريعة ومفصلة عن صاحب المائدة المزينة دائماً بعقود الياسمين، تجاهلت طلاب الزواج وركزت وخططت ودبرت للقاء هذا الرجل مهما كان الثمن. ظلت تلوم نفسها كثيراً لأنها لم تنتبه إليه سوى تلك الليلة، ففي عينيه سحر وغموض وحزن، ورسائل أخرى. ألم تكن لفتى أحلامها قبل سنوات هذه المواصفات كافة التي هزتها وزلزلتها هذا المساء. لكن لا لوم ولا عتاب، ربما هي صدفة خير من ألف ميعاد. جاء النادل بالمعلومات أخيراً، إنه البحار «نبيل»، لا أحد يعرف عنه شيئاً أكثر من أنه ينفق ببذخ ولا يختلط بأحد ويعشق زهور الياسمين، ويحجز مائدته حتى في الفترات التي يغيب فيها عن الملهى ويخوض فيها البحار ويركب الأمواج. لكن المعلومة الوحيدة التي لم يأت بها النادل كانت هي نفسها المعلومة التي اكتشفتها حنين بنفسها وبعثت فيها بالقلق والتوتر، خاتم الخطوبة في اليد اليمنى، هل هو دليل ارتباط مع امرأة مجهولة؟ لكن لا انسحاب ولا تراجع، هكذا قالت حنين لنفسها، إنها المرأة حينما تدخل تحدياً وتعرف مقدماً أنها لن تخسره أبداً، ربما لثقتها بنفسها، وربما لمجرد أنها امرأة.

كالعادة نجحت حنين في ما خططت له، فهي لم تعرف الفشل منذ احترفت الغناء في الملاهي الليلية واجتازت اختبارات المواجهة مع السكارى والذئاب وفتوات الليل فتعاملت مع الحياة بقوانين سهر الليالي. انطلت حيلتها على البحار نبيل فتحدثا عبر الهاتف ثم بدأت تشعره أنها لا تغني إلا له ولا تبتسم إلا لإرضائه بينما يعتقد رواد الملهى جميعاً كل منهم على حدة  أنها تغني وتبتسم له وحده، وتطور الإعجاب إلى صداقة ودعوات متبادلة على الغذاء أو العشاء أو مشاهدة إحدى المسرحيات أيام أجازاته وأجازاتها، وسألته ذات يوم شعرت فيه أنها صارت تملكه كخاتم في إصبعها:

• أنت خاطب يا نبيل؟!

•• لا... أنا متزوج!

كانت الإجابة أشبه بقنبلة فجرها نبيل في وجه حنين، التي ابتلعت ريقها وحاولت إخفاء دهشتها، وهي تلقي عليه بسؤال آخر:

• لكن الدبلة في يدك اليمنى؟!

•• هذه ليست دبلة زواجي، وإنما دبلة أول حب عشته في حياتي، ولم تكن صاحبته من نصيبي.

انفتحت شهية حنين للحوار، الآن فحسب يمكنها أن تفك لغز هذا الرجل الغريب الذي دق له قلبها من بين مئات المعجبين، ويبدو أن نبيل كان في أمس الحاجة إلى أن يفضفض معها ويلقي إليها بحمل ثقيل لم يكاشف به أحداً سابقاً، استطرد يحكي لها قصته وكأنه أمام طبيبه النفسي، صارحها بأنه ضحية الحب العظيم لأمه التي كانت تضعه بين رموشها منذ طفولته، هو الابن الوحيد الذي أنجبته بعد عذاب وطول انتظار، ومن فرط خوفها عليه احتكرته لنفسها فنشأ بلا صديق أو زميل أو تجارب تصقل الطفل أو الشاب، تخرج في الجامعة فأصرت أمه أن تزوجه بمعرفتها. اختارت له ابنة خالته سماح، وعاش الاثنان معها وتحت طوعها ونظرها وسيطرتها، وحقق هو حلم عمره والتحق بإحدى كبريات شركات الملاحة، إنها الأمنية الوحيدة التي حققها لنفسه ليصبح بحاراً يقود السفن ويعيش معظم وقته بين الأمواج؛ حتى جاء اليوم الذي لم يحسب له حساباً، مرضت أمه مرض الموت وبينما هي تحتضر أوصته بزوجته سماح، كان رحيل أمه صدمة قاسية ارتبكت معها حياته من جميع جوانبها.

دمعت عينا البحار نبيل وهو يحاول أن يكمل كلماته بينما قاطعته حنين بسؤال آخر:

• ألم تستطع زوجتك أن تحتويك بعد رحيل أمك؟

•• ربما لو كنا تزوجنا عن حب كانت ستنجح في هذه المهمة وغيرها، لكن كان في حياتي امرأة أخرى تعرفت إليها في هذا الملهى وأنا طالب في الأكاديمية البحرية، جئت إلى هذا الملهى بالصدفة، وأحببتها مع سبق الإصرار، كانت أول حب وأول امرأة دربتني على كل فنون الهوى.

• في نفس الملهى الذي أعمل به... من هي؟!

•• راقصة اسمها ياسمين.

سألته فى دهشة واستغراب:

• أنت يا نبيل كنت تحب ياسمين؟!

•• نعم. هي التي أهدتني هذا الخاتم قبل أن تيأس من تصرفاتي معها وتختفي.

• ياسمين لم تختف. تزوجت واعتزلت الفن وارتدت الحجاب وتفرغت لحياتها الجديدة. نحن جميعاً نعرف حكايتها.

•• تركتني وحدي. ربما كانت معذورة بعدما علمت بزواجي من ابنة خالتي سماح. لكنها لم تقدر أنني لا أستطيع عصيان أمي. لم يكن يهمني أن يراني الناس رجلاً ناقص الرجولة لأني عشت وكبرت طفلاً أمام أمي. كان يهمني شيء واحد ألا أخرج عن طوع أمي أبداً.

• هل اتصلت بياسمين بعد زواجها؟

•• لقنتني درساً قاسياً وحذرتني من أن يتكرر اتصالي بها مجدداً لأنها صارت زوجة وتتقي الله في زوجها.

زواج أو فراق

امتصت حنين الصدمة،  لكنها لم تتنازل عن نبيل وإنما ازدادت تعلقاً به. قررت أن تختبره وتبتعد عنه، لكنه لم يحتمل البعاد، وحينما تأكدت من أنه وقع في غرامها وضعته أمام الخيار الوحيد؛ الزواج وإلا الفراق. وكي لا تفقده سهلت له الأمر ولم تطلب منه أن يطلق زوجته ويكسر وصية أمه، ووافق نبيل بشرط أن يظل زواجهما سراً حتى لا يجرح زوجته الأولى ويعصي أمه وهي تحت الثرى، ولم تعترض حنين ما دامت ستحصل عليه في النهاية.

عاشا معاً في شقة حنين في القاهرة، كان نبيل يتردد عليها أيام عطلته بعدما أقلع عن الذهاب إلى الملهى، ويبدو أن حنين كانت تنفذ خطة ماهرة من خلف ظهر نبيل. اعتزلت الغناء في الملاهي الليلية على طريقة زميلتها السابقة ياسمين، كان اليوم الذي يصل فيه نبيل إلى بيتها عيداً تنتظره بفارغ الصبر، وذات يوم فاجأته بأنها حامل. ألحَّ على أن تتخلص من الجنين، ورفضت هي بإصرار، اتخذ نبيل قراره وخيرها بينه وبين إنجابها للطفل، وبكل قوة اختارت حنين الطفل فاختفى نبيل بعدما سرق ورقتي الزواج العرفي. انتظرت حنين حتى وضعت مولودها، اتصلت بنبيل لتستخرج شهادة ميلاد لطفلها، لكنه حذرها من عناده، وردت عليه في حسم: «بيني وبينك... المحكمة».

أنكر نبيل أمام المحكمة نسب الطفل أو حتى الزواج من حنين، واستندت حنين الى شهادة بواب عمارتها وعامل «الدليفري»، الذي كان يأتي إليهم بوجبات الطعام ويتسلمها منه نبيل على باب شقتها. قدمت صوراً تجمع بينهما في شقتها يرتدي فيها نبيل لباس النوم أحياناً ويظهر بملابسه الداخلية أحياناً أخرى، مما يعني أنه كان يعيش معها في شقتها. وشهد المحامي الذي حرر عقد الزواج العرفي وقدم شهود العقد إلى المحكمة، وقال دفاع نبيل إن الزواج العرفي بدعة اخترعتها الراقصات والفنانات للنيل من أي رجل، ونفى أن يكون موكله قد تزوج من حنين ذات يوم. أما المفاجأة فقد فجرتها حنين حينما طلبت إجراء تحليل الـDNA لإثبات نسب الطفل، إلا أن المحكمة قضت بصحة الزواج بعدما اطمأنت لشهادة الشهود ومحرر العقود، وقالت في حكمها إن الزواج العرفي واقعة مادية يجوز إثباتها بكل طرق الإثبات في القانون، وإن إثبات دعوى الزوجية لا تسمع قانوناً عند الإنكار إلا في مسائل إثبات النسب.

خرج نبيل من المحكمة منكسراً، مشى إلى جوار زوجته سماح منكس الرأس بعدما عاتبته بمرارة على مرأى ومسمع من الجميع، بينما كانت حنين في قمة سعادتها وهي تردد أن المرأة قد لا تحزن على رجل خسرته، المهم ألا تخسر أمومتها. ربما كانت فرحتها الحقيقية أنها لحقت نفسها وعاشت الحب والأمومة ولو في الوقت الضائع؛ فما يأتى متأخراً أفضل مما لا يأتي أبداً، خصوصاً وقد ضمنت أن نبيل سوف يبحث ذات يوم عن ابنه منها، وحينها ستصفي حساباتها معه.