هل السياسة بحاجة إلى الفلسفة؟
حنه أرندت في فيلم لفون تروتا
برهن التاريخ غير مرة على الطابع الكارثي لدخول الفيلسوف عالم السياسة، فأفلاطون الذي عُدت الفلسفة الغربية محض هوامش لمتن فلسفته الأعرض، ذاق المهانة وحفت سكاكين الموت قريبا من رقبته، في حين كان بمقدور معلمه سقراط إطالة عمره ووقى نفسه تجرع السم لو أنه استنكف عالم السياسة. بل إن فيلسوفا حاذقا كمارتن هايدغر الذي يجمع مؤرخو الفلسفة على أنه أهم فلاسفة القرن العشرين لحقت بسيرته الفلسفية الباهرة لطخة لتعاونه مع الحزب النازي قبيل الحرب العالمية الثانية.وعاد الجدل مرة أخرى حول هذه العلاقة الملتبسة من خلال فيلم جديد للمخرجة الألمانية مارغريت فون تروتا تتناول فيه فترة صاخبة من حياة الفيلسوفة الألمانية الأميركية حنه أرندت، وتحديدا التفاصيل المصاحبة لتأليفها كتاب "إيخمان في القدس: تقرير حول ابتذال الشر" الذي صدر عام 1963 بعد نشره مجزءا في مجلة "نيويوركر"، والكتاب صدر في وقت كانت تتمتع فيه أرندت بمكانة فكرية مرموقة في أميركا والعالم ظفرت بها بسبب كتابيها المهمين "أصول التوتاليتاريات" عام 1951 و"الشرط الإنساني" عام 1958.
وكي تكتب عن أدولف إيخمان، حرصت أرندت على متابعة الحدث عيانيا، ومعايشة محاكمة المسؤول النازي الذي صوره الإعلام اليهودي وحشا نازيا، وقطبا من أقطاب خطة "الحل النهائي" التي صممها قادة الرايخ الثالث لاستئصال اليهود عن بكرة أبيهم. ومن مراقبتها الدقيقة والثاقبة للمحاكمة وقراءة وثائقها، أيقنت أرندت أن إيخمان المحتجز كفأر في قفص زجاجي لم يكن بإجاباته المعلبة المكرورة سوى موظف بيروقراطي جاهل لم يستخدم عقله أو ملكاته النقدية لتقييم أفعاله. ربما لو تنطح لمهمة كهذه أحد اختصاصيي العلوم الاجتماعية الإنسانية وليس فيلسوفا لانتهت محاكمة إيخمان إلى كونها حدثا تاريخيا عابرا، ولكن عقل أرندت الفلسفي المتوهج وشغفها بالحقيقة جعلاها تشيح النظر عن الغرائز المنفلتة عن عقالها، وتحفر عميقا في جوهر هذا الحدث. وقد قدمت تحليلا أخاذا شدد على عدم مسؤولية إيخمان بوصفه أمرأ جاهلاً ألفى نفسه عالقا في آلة بيروقراطية جهنمية، وعلى أن الدور الأشد قتامة في التراجيديا السوداء لإبادة اليهود قام به قادة اليهود أنفسهم. ذاك أن الأخيرين تواطؤوا مع النازيين في تسهيل التهجير القسري لليهود واعتقالهم وترحيلهم، كما مارس مسؤولو المنظمات اليهودية في ألمانيا ممن كانوا يعملون بالتنسيق مع النازيين ترهيبا وتخويفا لأبناء جلدتهم، وساقوا الآلاف منهم إلى الأوشفيتز لإنقاذ حفنة من أثرياء اليهود وتهريبهم للخارج.أوضحت أرندت أن قادة إسرائيل إنما يمارسون بمحاكمة إيخمان خداعا متقنا للذات من خلال الاقتصاص منه على الرغم من أن غالبية رجال دولة إسرائيل شركاء للنازيين في الجريمة. ومن هنا يمكن معرفة ردود الفعل العنيفة التي لم تقتصد بها المنظمات اليهودية وبعض المثقفين اليهود البارزين ضد أرندت.إن الدرس البليغ في فيلم مارغريت فون تروتا يتجاوز حادثة إيخمان ليعيد مرة أخرى أهمية دور الفلسفة في الحيز العام، وبخاصة السياسي، فدخول الفيلسوف في الحيز العام بما يمتلكه من شغف بالحكمة والحقيقة ومهارات التفكير النقدي والقدرة على تحليل القضايا المعقدة هو أمر على قدر كبير من الأهمية، ولأن السياسة فن إدارة المجتمع والأفراد، وتتوخى قبل ذاك تطبيق العدالة في مجتمع إنساني تتصارع فيه رغبات الأفراد المتمايزة وحق كل منهم في أن يسعى بأسلوب الحياة والسعادة التي يرومها فإن ذلك يغدو بعيد المنال دون الفلسفة التي تمج بحكمتها ونشدانها الحقيقة مشاعر الغريزة وانحرافات الهوى.وآية ذلك مشهد مؤثر في الفيلم يقرع فيه كيرت بلومفيلد وهو على فراش الموت صديقة عمره أرندت لقسوتها تجاه اليهود، ويسألها بدهشة: ألا تحبين إسرائيل؟ ألا تحبين قومك؟ فتجيبه أرندت بقولها: إنك تعلم أنني لم أحب قوما بعينهم أبدا. إنني أحب أصدقائي فقط، وهذا هو الحب الذي بمقدوري أن أجود به.