بعد سنوات طويلة من الانتظار وإعداد الدراسات والبحث عن التمويل المطلوب وقَّع الأردن، أمس الأول، في العاصمة الأميركية واشنطن مع الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، نعم الإسرائيلي ولماذا لا؟ مذكرة التفاهم لتنفيذ المرحلة الأولى من ناقل البحر الأحمر- البحر الميت الذي يشكل بالنسبة إلى المملكة الأردنية الهاشمية أهم مشروع استراتيجي ضروري ولازم لحل أزمة المياه التي غدت مستفحلة، ولا يوجد أيُّ حلٍّ لها إلا هذا الحل، وأيضاً لتجنب الكوارث الجيولوجية المتوقعة في حال "نشفان" مياه هذا البحر بصورة كلية في عام 2050.

Ad

منذ سنوات طويلة والأردن يعاني معاناة فعلية وحقيقية بسبب شح مياه الشرب، لا المياه التي يحتاج إليها في الزراعة، في بلد يقع على حدِّ سيف الصحراء، وقد ازدادت هذه المعاناة في العامين الأخيرين بسبب تدفق اللاجئين من الأشقاء السوريين الذين لا أحد بإمكانه التكهن إلى أيِّ أرقام ستصل أعدادهم، ومتى سيتوقف العنف وتستقر هذه الدولة الشقيقة، وهنا فإن ما لا يعرفه "المُتفلِّسون" والكتبة الكذبة، الذين امتهنوا المزايدات وهم يعيشون رغد العيش في قصورهم التي دفعوا ثمنها من الزحف على بطونهم وبيع وتأجير أقلامهم في أسواق النخاسة، كم تعب الأردنيون من انتظار غيوم السماء، وكمْ تعبوا من انتظار دعم أشقائهم وأصدقائهم، وكم تعبوا من اعتراض مياه نهر اليرموك داخل الأراضي السورية وتحويلها لريِّ مزارع قادة الحزب وكبار الجنرالات، والحيلولة دون وصولها إلى سدِّ "الوحدة"، الذي لو أن الأردن لم يفقد باقي ما تبقى من الثقة بهذه الأمة لغيَّر هذا الاسم إلى سدِّ "الفرقة".

لقد بقي الأردن يخوض حرب مفاوضات شاقة وحقيقية مع الإسرائيليين لحملهم على الاعتراف بحق أشقائنا الفلسطينيين في مياه هذا المشروع مثلهم مثل غيرهم، وقد تحقق هذا بعد كفاح فعليٍّ وحقيقي، ولعل ما يدل على وطنية الموقف الأردني أنَّ الأردنيين قد صبروا صبر أيوب، وظلوا مصرين على أنه من غير الممكن استثناء شعب له الحق في أنْ يكون شريكاً مثله مثل غيره بحكم عوامل كثيرة متعددة من بينها أنَّ الحدود الشمالية للدولة الفلسطينية المنشودة، التي ستقوم حتماً، تتوغل مسافات طويلة في مياه البحر الميت الذي يجب منْعه من أنْ يموت ميتة نهائية.

هناك عربٌ مَرْضى يضطرون للذهاب إلى إسرائيل للعلاج في المستشفيات الإسرائيلية، بينما دولهم لا تعترف بهذه الدولة ولا تقيم معها أي علاقات لا دبلوماسية ولا غير دبلوماسية... فهل المطلوب من الأردن، الذي وقّع اتفاقية وادي عربة التي ثبت أن الأشقاء المحاصرين في الضفة الغربية ربما استفادوا منها أكثر منه، أن يبقى يتحمل "نشاف" الريق والعطش المزمن المتعاظم، ويبقى يعيش الكوابيس التي يعيشها خوفاً من الانهيارات الجيولوجية التي قد تضرب حتى العاصمة عمان في عام 2050، وربما قبل ذلك، حتى يُرضي تجار المزايدات ويتجنب غضب أحزاب البطالة السياسية ويتحاشى حملات الكتبة الكذبة.

ولذلك فإن على الأردن أن يمضي في هذا المشروع الذي لا يضاهيه أيُّ مشروع آخر، لأنه يتعلق بأرواح أبنائه، ولأنه مشروع الأجيال المقبلة التي لابد من التفكير فيما ستكابده منذ الآن، والتي لا يجوز خُلُقياً ولا إنسانياً أن نتركها تواجه مستقبلاً مظلماً وأياماً سوداء... أمَّا المزايدون، سواءً في الداخل أم في الخارج، فإنهم معروفون بهذه المواقف العدمية، والشعب الأردني يعرفهم تمام المعرفة، ويعرف أيضاً الذين يصرخون من العواصم البعيدة بهدف بيع مزايداتهم هذه في أسواق النخاسة... وهم في الحقيقة بهذه المواقف لا يخدمون إلا إسرائيل.

لا يحدد مواقف الأردن إلا حاجة أبنائه، ولذلك كان عليه أن يوقّع هذا المشروع الاستراتيجي وأن يستكمله بكل طاقته، لأنه قد اقترب من خطوط الخطر، وقد ثبت، بصورة قاطعة، أنه لا علاج لمشكلة شح الماء، ليس للزراعة بل للشرب، إلا هذا العلاج... لقد انتظر الأردنيون طويلاً وقد حانت اللحظة التي يُقْدِمون فيها على هذه الخطوة الوطنية الاستراتيجية المهمة التي يجب أن يتبعوها بخطوات التنفيذ السريعة، فالأمور لم تعد تحتمل الانتظار ولا التأجيل ولا المراجعة.