الإعلام تحت «داعش»
إذا كتبت اسم "داعش" في محرك البحث "غوغل"، سيظهر لك أكثر من 40 مليون نتيجة، بما يعني أن هذا التنظيم الصاعد بات يملأ الدنيا ويشغل الناس، وأن الاهتمام الإعلامي به يفوق الكثير من الحركات والتنظيمات والدول الراسخة في المنطقة منذ قرون عديدة.إن معظم تلك الروابط التي تظهر في محركات البحث تتناول جوانب حركية وتطورات ميدانية يقوم بها هذا التنظيم ورجاله، كما أن كثيراً منها يتضمن تحليلات وآراء وانتقادات وهجمات حادة على هذا التنظيم الذي اعتبره بعض المفكرين "عدواً للإنسانية".
ليس هناك الكثير إذاً مما يقال عن علاقة "داعش" بالإعلام، أو عن الطريقة التي يتعامل بها "داعش" مع الإعلام.لقد كان خبر نحر الصحافي الأميركي جيمس فولي على يد مسلحي "داعش" قصة العالم الرئيسة خلال الأسبوع الماضي؛ وهو الأمر الذي لفت الانتباه إلى طبيعة علاقة التنظيم بالإعلام والإعلاميين، وأوجب ضرورة تقصيها.يسيطر "داعش" على مناطق واسعة عديدة في سورية والعراق، وتمتد عملياته إلى دول أخرى مثل لبنان، كما أعلن تبنيه عمليات في دول أبعد مثل مصر، ولا يبدو أن هناك قدرة على تغيير هذا الواقع بشكل سريع، في ضوء تهافت القوى العسكرية المحيطة به، وعدم وجود قرار دولي واضح باستهدافه وتحجيم تقدمه.يتقدم "داعش" ويكسب كل يوم أرضاً جديدة، ويتمركز في الواقع السياسي والاجتماعي للمنطقة ليس بوصفه فقط "سلطة أمر واقع في مساحة ما"، ولكن أيضاً باعتباره "ثقافة" و"أسلوباً" يمكن أن يسودا في إطار وحيز من واقعنا لفترة قصيرة أو فترات طويلة ممتدة.واستناداً إلى ذلك، فمن الضروري تقصي علاقة "داعش" بالإعلام، وبصيغة أخرى محاولة التعرف إلى الحالة التي سيكون عليها الإعلام والإعلاميون تحت سلطة "داعش" وفي كنف "الداعشية".في تلك السطور، سأحاول أن ألخص ما يمكن أن يكون واقعاً إعلامياً في ظل "داعش" استناداً إلى ما توافر من معلومات عن سلوك هذا التنظيم الراهن إزاء الإعلام.أولاً: "الإعلام نشاط معاد... والإعلاميون خونة محتملون"تفيد التقارير الواردة من المناطق التي يسيطر عليها تنظيم "داعش" أن التنظيم يعامل الإعلاميين بوصفهم "أعداء" أو "خونة محتملين متعاملين مع الأعداء".ينطلق التنظيم في تصوره هذا من حقيقة أن معظم المعالجات الإخبارية لسلوكه في الإعلام الإقليمي والعالمي سلبية، حتى إن رجال التنظيم يعاقبون الصحافيين الذين تستخدم صحفهم اسم "داعش" نفسه في وصف "تنظيم الدولة" أو "الدولة" لاحقاً، وفي بعض الأحيان تكون العقوبة القتل.لا عجب إذاً في أن "لجنة حماية الصحافيين" اعتبرت أن سورية "أخطر مكان في العالم للصحافيين" على مدى العامين الجاري والفائت، خصوصاً أن 69 صحافيا قتلوا في هذا البلد كنتيجة مباشرة للنزاع، كما اختطف أكثر من 80 صحافياً، ما زال عشرون منهم في عداد المفقودين.إن كونك إعلامياً في ظل "داعش" سيؤدي إلى توجيه اتهام مباشر لك، ولذلك فإن الكثير من الصحافيين الذين طالما نشطوا في المناطق التي يسيطر عليها التنظيم باتوا خارج نطاق الخدمة، بعدما أصدر التنظيم قرارات بمنع العمل مع الفضائيات العربية ووسائل الإعلام الأخرى التي يصنفها معادية، تاركاً فرصة وحيدة فقط للعمل مع وكالات الأنباء العالمية.ثانياً: رقابة مركزية مشددةسيسمح تنظيم "داعش" طوال الوقت بمراسلة بعض وسائل الإعلام، خصوصاً وكالات الأنباء العالمية، التي يهمه جداً أن تنقل إلى العالم تقدمه وانتصاراته.لكنه لن يترك الحبل على الغارب للمراسلين، فقد سجل أسماءهم، وأخضعهم لإجراءات فحص وتفتيش، وتأكد من توافرهم على الحد الأدنى لتقبلهم من وجهة نظره.ورغم كل ذلك، فإن أي خبر أو تقرير أو صورة أو فيديو يريد صحافي أن يرسله من مناطق "داعش" إلى وسيلته يجب أن يخضع للمراجعة، وإذا تمت إجازته يرسل، والعكس صحيح. إنها "رقابة مركزية سابقة" من تلك التي تجاوزتها صناعة الإعلام في أسوأ الدكتاتوريات قبل أكثر من أربعة عقود.ثالثاً: ملاحقة أدوات صناعة الإعلام لا يختلف "داعش" كثيراً في تعامله مع أدوات صناعة الإعلام عما يفعله إزاء المواد الممنوع تداولها في مناطقه، إذ تبقى تلك الأدوات مشروع جريمة باستمرار، وتتم ملاحقتها بشتى الوسائل.يعني هذا أن حمل أي شخص، سواء كان صحافياً أو مواطناً صحافياً أو مواطناً مهتماً أو هاوياً، لكاميرا تصوير متقدمة، أو جهاز تسجيل، أو "فلاشة" تحوي صوراً ومواد ذات طبيعة خبرية، سيكون متهماً، وستتم ملاحقة هذا الشخص، واعتباره مجرماً حتى يثبت العكس.وفي كل الأحوال فإن تلك المواد والوسائل ستتم مصادرتها، وهو أمر سيشمل بطبيعة الحال أجهزة البث، والاستديوهات، وتجهيزات الإذاعات، والمطابع الصحافية. سيضمن "داعش" السيطرة على كل وسائط الصناعة أو سيدمرها وسيلاحق أصحابها.رابعاً: ضرورة المبايعةفي نهاية شهر يوليو الماضي، عقد أبو أنس المصري مسؤول الإعلام في "داعش" لقاء مع الإعلاميين في مدينة "دير الزور"، حيث أكد لهم خلال اللقاء أن استمرارهم في العمل الإعلامي مرهون بمبايعتهم "خليفة المسلمين"، وعدم إطلاق اسم "داعش" على التنظيم واستبدال اسم "الدولة الإسلامية" به.وخلال هذا الاجتماع أوضح أبو أنس للإعلاميين الحاضرين ضرورة عدم التحدث مع أي من الفضائيات أو مراسلة وسائل الإعلام العربية، تاركاً لهم فقط فرصة مراسلة وكالات الأنباء العالمية، بعد أخذ التصريح بكل كلمة أو فيديو أو صورة ترسل لها من القائمين على الأمر في التنظيم... يعني هذا أن "مبايعتك" لـ"الخليفة" شرط استمرارك في العمل الإعلامي تحت حكم "داعش".خامساً: استخدام دعائي مكثف للإعلام الجديديرى "داعش" في الإعلام الجديد وسيلة من وسائل "الجهاد"، وأداة رئيسة في مشروعه، ويتضح هذا من مرافقة الإعلام الجديد للتنظيم في كل مفاصل رحلته؛ فعندما أعلن أبو بكر البغدادي اسم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" في أبريل من العام الماضي، إثر دمج عدد من الفصائل، استخدم شبكة "شموخ الشام"، كما أن كثيراً من أنباء التنظيم وعملياته يتم الإعلان عنها عبر صفحات تتكاثر كالفطر تتحدث باسمه أو تناصره.تمثل المنتديات الإلكترونية نمط اعتماد أساسي للتنظيم في مقاربته للعالم، ورغم اهتمامه بالمنشورات المطبوعة التي يحرص على توزيعها على المناطق التابعة له، فإن هذا الاهتمام لا يقارن بما يوليه للمواقع الإلكترونية والصفحات المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي.لكن أغلب المحتوى الإلكتروني للتنظيم لا يخرج عن صيغة الدعاية التقليدية ولا يستخدم سوى أساليب الاقتراب المباشرة.سادساً: مخاطبة الخارج أهمفي شهر يوليو الفائت، تم الإعلان عن صدور أول صحيفة لـ"داعش" وهي مجلة "دابق"، و"دابق" هو اسم مشتق من منطقة وقعت فيها معركة "مرج دابق" في عام 1516، وهي المعركة التي هزمت فيها جيوش السلطان العثماني سليم الأول مماليك الشام، وفتحت الطريق أمام الخلافة العثمانية لتحكم المنطقة أكثر من أربعة قرون.لقد قال خبراء إن "دابق" التي صدرت في 50 صفحة باللغة الإنكليزية تمثل اختراقاً جمالياً وتصميمياً، مشيرين إلى أنها صممت كما لو كانت "فيلما هوليووديا تم الإنفاق عليه ببذخ".إن إصدار مجلة بموارد ضخمة وباللغة الإنكليزية لاستهداف العالم الخارجي تشير إلى أن التنظيم يولي اهتماماً أكبر بمخاطبة العالم الخارجي.وبتحليل موضوعات "دابق" وجد أنها دعائية مباشرة، تستخدم أفضل التقنيات الصحافية من أجل تقديم محتوى تقليدي بائس لتعزيز صورة التنظيم، وليس لتقديم منتج إعلامي يتحلى بأبسط الشروط المهنية.لدينا تنظيم صاعد، يكسب مساحات جديدة كل يوم في الواقع وعلى الأرض وفي العقل الجمعي العربي، وهو تنظيم يعادي الإعلام إلى حد القتل، ويطارد الإعلاميين ووسائلهم كفرائس، ويسيطر على كل كلمة تقال عبر الإعلام، ويلزم الإعلامي بالتجرد من مهنيته حتى يواصل مهمته، وينفق أموالاً ضخمة على رسائل فارغة بائسة، يخاطب بها الخارج بعدما ضمن ولاء الداخل عبر القمع والإرهاب.أي مستقبل بائس لنا كإعلاميين ومواطنين؟* كاتب مصري