حرية العصفور!

نشر في 29-12-2013
آخر تحديث 29-12-2013 | 00:01
حين يقبل المثقف بألا يطير إلا في القفص المرسومة مساحته والمضروبة حدوده من قبل السلطة، حتى لو كان بحجم الكرة الأرضية، فما هو إلا مثقف مزيف في الحقيقة، بل هو أسوأ من ذلك، هو مثقف منافق لأنه يجمل صورة السلطة ويظهرها بمظهر السلطة الصالحة المانحة للخير.
 د. ساجد العبدلي الحرية شيء أكبر بكثير من حدود المتبادر المألوف لدى عموم الناس، ليس الأمر مقصوراً على حرية التنقل أو التملك ولا حتى التعبير، لأن الحرية تنبع من الداخل قبل أن ترتبط بالخارج والظاهر.

حين يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: "ما يفعل بي أعدائي، إن سجني خلوة ونفيي سياحة وقتلي شهادة"، فهو يكشف لنا المعنى المراد. الرجل قابع بين جدران السجن وبالرغم من ذلك يؤمن بأنه لم يفقد حريته، أعني حريته الحقيقية على مستواها النفسي والفكري، ويرى نفسه في خلوة لا يمكن لها أن تقيد أو أن تكبح جماح أفكاره، ولو أمسكت بجسده وحبست جثمانه.

العصفور في القفص المعتاد سجين، ولكن ماذا لو كان القفص بحجم قصر كبير؟ هل لا يزال العصفور سجيناً؟ ماذا لو كان القفص بحجم بلاد بأسرها؟ هل لا يزال سجيناً؟!

المسألة ترتبط بالقيود المفروضة على الفكر. حين يكون الفكر مقيداً حبيساً فحرية الجوارح والجسد في أن تتحرك في عرض البلاد وطولها لا تعني شيئاً. العصفور سجين.

حين يصبح التفكير خارج دائرة المسموح به من قِبل السلطة من ضروب الممنوع والمحرم، يفقد الإنسان حريته الحقيقية، حتى لو أعطته هذه السلطة المال الوفير ووفرت له سبل الراحة وسهّلت له المعيشة في الظاهر الملموس.

والمثقف معني بهذه الفكرة في المقام الأول، وأعني بالمثقف في هذا السياق من ينظر إليه الناس في مقام القدوة على مستوى الفكر.

حين يقبل المثقف بألا يطير إلا في القفص المرسومة مساحته والمضروبة حدوده من قبل السلطة، حتى لو كان بحجم الكرة الأرضية، فما هو إلا مثقف مزيف في الحقيقة. بل هو أسوأ من ذلك، هو مثقف منافق لأنه يجمل صورة السلطة ويظهرها بمظهر السلطة الصالحة المانحة للخير. حين يقبل المثقف بأن يشيح وجهه عن الأسئلة الحقيقية، ويستمر في ممارسة نشاطه "الثقافي" المعتاد مكتفياً بالإجابات المرفهة المتنعمة التي قدمتها السلطة، ولو على أواني الفضة الموشاة بالذهب، فإنه ليس سوى عبد من عبيد السلطة وأداة من أدواتها.

وليس من الضروري أن تضرب السلطة طوقاً قمعياً صريحاً، بشكل من الأشكال، حول مساحات التفكير ومن ثم التعبير، بل يكفيها أن تفتح حنفيات النعيم والخيرات والعطايا، ليصاب الناس، ومن جملتهم كثير ممن يسمون بالمثقفين، بحالة من الخدر وتبلد الإحساس والتفكير، فلا يعودون يسألون عما هو خارج حدود قفصهم الذهبي الكبير.

الحديث عن حرية طرح الأسئلة الكبرى المتعلقة بتبادل السلطة ومن يكون في موقع القيادة وفتح جميع الملفات ومراقبة أداء الحكومة ومحاسبتها عند التقصير، يجب ألا يثار فقط عند تدهور الأداء الحكومي أو عند فساد السلطة، بل الحرية الحقيقية هو أن يحق للناس تداول مثل هذا الحديث متى ما شاؤوا، الحرية الحقيقية هي أن حسن أداء السلطة، لا يسلبنا حقنا في أن نختارها أو نعزلها ونستبدلها متى ما شئنا!

هذه هي الحرية.

back to top