رغم أن مايكل شميدت، الذي وُلد في المكسيك، يعمل منذ زمن بروفسوراً في المملكة المتحدة، لا تُعتبر مقاربته في The Novel: A Biography أكاديمية، بل حاول التوجه إلى {القارئ العادي}، كما تصفه فيرجينيا وولف، مع أنه يدرك تماماً أن على هذا القارئ أن يبذل بعض الجهد لمجاراته.
ما كنت لأطالع كتاباً بهذا الحجم لو لم أقرأ مسبقاً كتابه Lives of the Poets ({حياة الشعراء} عام 1998)، وهو عمل ضخم مميز عن شعراء اللغة الإنكليزية يسهّل عليك ترتيبه الأبجدي مطالعته.صحيح أن The Novel: A Biography لا يقل عنه تميزاً، إلا أنه أكثر بساطة، فهو يضم مجموعة من المقالات يفصّل فيها شميدت بادئ الأمر تاريخ الرواية. وعندما يبلغ التاريخ المعاصر، يتناول مجموعات من الروائيين الذين يقسمهم وفق ميولهم في الكتابة. على سبيل المثال، يتحدث شميدت في الفصل Elegy (الرثاء) عن ثورنتون وايلدر، وليام فولكنر، إيلن غلاسكو، يودورا ويلتي، كارسون ماكولرز، فلانيري أوكونر، هاربر لي، رالف إيليسون، توني موريسون، توماس وولف، مالكوم لوري، وجويس كاري، ويعمل على تحديد أوجه الشبه بينهم.تشمل مزايا الكتاب سعي شميدت إلى استطلاع آراء الروائيين حول أحدهما الآخر بدل أن يعتمد على النقد محترف، متبنياً أسلوب هارولد بلوم (لم يرد ذكره سوى مرة في الكتاب الضخم). ففضلاً عن شميدت، يقدم كتّاب مثل وولف، فورد مادوكس فورد، وجوناثان ليثم كثيراً من المعلومات والحجج. يكتب شميدت: {أعد فيلدينغ، سمولي، ستيرن، ستيندال، فلوبير، تورجينيف، ديكنز، فولكنر، وهانتر تومبسون التحاليل الأكثر عمقاً عن سيرفانتس. ولم تقتصر تحاليلهم على ما ذكره عن دون كيشوت، بل تخطته إلى الطريقة التي أدرجوا بها هذا الفارس الحزين ومساعده في تخيلاتهم الخاصة}.كما يوضح هذا المقطع، ناقش شميدت في المقام الأول الروايات في اللغة الإنكليزية، إلا أنه خصص جزءاً من عمله هذا لكتّاب قدّموا أعمالاً بلغات أخرى، مثل تولستوي وكافكا، اللذين أثرا بعمق في أعمال الخيال باللغة الإنكليزية.لا يناقش شميدت أي أعمال صدرت بعد عام 2000. ونظراً إلى كثافة أفكاره، قرأت كتابThe Novel: A Biography على مدى بضعة أشهر مغطياً 10 إلى 15 صفحة كل يوم. أنصح الجميع بأن يحذوا حذوي. يحتوي الكتاب على كثير من النقاط التي قد يتوقف عندها النقاد والمحررون. كذلك يقدّم كمّاً كبيراً من الاقتراحات والمحفزات، ما يمثل سبباً جيداً يدفعنا إلى مطالعة هذا العمل الضخم.في البدءيعتبر شميدت كتاب Mandeville’s Travels للسير جون مانديفيل، الذي كُتب بالفرنسية بين عامَي 1357 و1371 وطُبع بالإنكليزية عام 1496، أحد أولى الأعمال الخيالية التي وضعها كاتب إنكليزي، مع أن لا أحد يُصنّفه رواية. يكتب شميدت أن هذه المذكرات وسجلات السفر {تدعي أنها حقيقة، إلا أنها حيكت من أكاذيب وأنصاف الحقائق}، علماً أن هذا الوصف ينطبق على كثير من الروايات الأخرى.أوصلته جولته بين الأعمال الباكرة (بما فيها The Pilgrim’s Progress لجون بانيان) إلى أفرا بين 1689-1640. ويقتبس شميدت وصف وولف لهذه الأديبة التي خَلَفتها خلال حقبة عودة الملكية في بريطانيا: {على النساء نثر الأزهار على قبر أفرا بين... لأنها هي مَن منحهم حق التعبير عن آرائهن}. يعتبر شميدت رواية بينOroonoko أو The Royal Slave 1688 {رواية مقتضبة مذهلة تدور أحداثها في سورينام تعبّر بأسلوب بليغ متقن عن معارضتها العبودية، جامعةً بين المذكرات والابتكار وسجلات السفر والسيرة الذاتية}. وبعد أن يشير شميدت إلى تناول Oroonoko مواضيع مهمة في {المجال الأكاديمي المعاصر}، مثل الإمبريالية، الاستعمار، والتمييز الطبقي والعرقي، ينتقل قروناً إلى الأمام ليربط بين بزورا نيل هورستن، مؤلفة Their Eyes Were Watching God (1937). ويشكّل هذا النوع من الربط إحدى المزايا التي تجعل كتاب شميدت ممتعاً ومثقفاً بالنسبة إلى محبي الأدب. ففي فصل Impersonation مثلاً، يربط بين دانيال دوفو، ترومن كابوت، وجي. إم. كوتزي، ويعلن نوفلز باتريك أوبراين، كاتب روايات أوبري-ماتورين البحرية، وريثاً لميغال دو سيرفانتس.روايات أميركية عظيمةصحيح أن شميدت يكتب من بريطانيا العظمى، إلا أنه وزملاءه في هذه الرحلة يتعمقون في الأعمال الخيالية الأميركية. لنتأمل في بعض وجهات نظرهم من عدد من الكتب يدرجونه تحت العنوان {الرواية الأميركية العظيمة}.يعتمد شميدت على آراء ويلا كاثر وجورج لويس بورغيس ليؤكد عظمة رواية مارك تواين Adventures of Huckleberry Finn ({مغامرات هاكلباري فين} عام 1884)، ويستشهد بكلام إيرنست هامينغواي عن أن الأعمال الخيالية الأميركية المعاصرة تتحدر من هاكلباري. فيعتبر شميدت أن هولدن كولفيلد، سكوت فنش، أوغي مارش، حتى هامبرت هامبرت خلفوا نوعاً ما هاكلباري. لكنه يؤيد هامينغواي في رأيه أن النهاية السعيدة التي رسمها تواين لرواية هاكلباري فين جاءت خاطئة.في فصل Thought-Divers، الذي يشمل أيضاً آراء عن ناثانيال هوثورن وهارييت بيشر، يصف شميدت أسلوب هيرمن ميلفيل في {موبي ديك} (1851) بأنه {جاكوبي بامتياز. فهذه الرواية تحتوي على آراء قوية عن الأخلاق وشكل الجسم شبيهة بما نراه في الدراما والكتابات الدينية في عهد كانت فيه ترجمة الملك جيمس للإنجيل ومجموعة Book of Common Prayerقد بدأتا بالتغلغل في الدم الإنكليزي}. ويذكر شميدت أن د. هـ. لورانس يُبرز أوجه الشبه بين {موبي ديك} وإدموند ويلسون بما أنهما كليهما يميلان إلى الرواية ويرفضانها في آن.يستهل شميدت تأمله في إف. سكوت فيتزجيرالد وروايته The Great Gatsby (1925) بمعارضة قول غور فيدال: {لا يحمل ما كتبه فيتزجيرالد قيمة أدبية تُذكر}. فيكتب شميدت نفسه: {من بين كتّاب الجيل الضائع، وضع فيتزجيرالد الجملة والمقطع الأكثر بلاغةً وتعبيراً}. كذلك يعتبر رؤية فيتزجيرالد من خلال راوي Gatsby نيك كاراواي {سامية وكاملة بما يتناسب مع وصف فيرجينيا وولف للمؤلف المتكامل: إيجابي وسلبي، رجل وامرأة، وساذج وماكر}.لكن شميدت يصف أيضاً كاراواي بأنه راوٍ لا يُعتمد عليه لأنه يعرف الكثير أو القليل في مراحل الرواية المختلفة، ما يصعّب الوثوق به.يستعين شميدت بآراء كثيرين ليصف رواية Beloved (1987)، ويكتب أن موريسون حوّلت تجربة السود إلى موقف موحد. اقتبس شميدت عن موريسون قولها: {لا نشكل كتلة واحدة من الناس الذين لا يمكن التمييز بينهم والذين يتصرفون دوماً بالطريقة عينها. أحاول أن أعطي بعض المصداقية لكل أنواع الأصوات التي يبدو كل منها مختلفاً كثيراً. فالتنوع يبرز بوضوح في الثقافة الأفريقية-الأميركية {.علاوة على ذلك، يقدّم شميدت بتعديله الإطار العام مرشحه المميز والمناسب لحمل راية {الخيال} في الرواية الأميركية العظمية: Ragtime (1975) للكاتب إي. إل. دوكتورو. يذكر شميدت: {يتناول هذا الكتاب قصة عدد من الأميركيين المشهورين الذين تربط بينهم مجموعة من الناس العاديين. إنها رواية عن الحلم الأميركي، عن أميركا بحد ذاتها، عن روابطها واختلافاتها مع أوروبا والمشهد العام، عن افتتانها بالشهرة والنجاح، جشعها، ظلمها، إفراطها العاطفي، ومثاليتها}.روائي من ويسكونسنيستهل شميدت فصل Elegy بالثناء على الروائي ثورتون وايلدر من ماديسون في ويسكونسن (1897-1975)، الذي نتذكره اليوم من خلال أعمال مثل الدراما Our Town. لكن وايلدر وضع أعمالاً خيالية مميزة أيضاً، مثل The Bridge of San Luis Rey (1927). ويشير شميدت إلى أن رئيس الوزراء البريطاني توني بلير قرأ عالياً خاتمة هذه الرواية خلال مراسم تأبين الضحايا البريطانيين الذين سقطوا في اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر.يكتب شميدت: {أمضى وايلدر في أوروبا وقتاً أطول بكثير، مقارنة بهامينغواي وفيتزجيرالد. لكن الأهم كانت نظرته إلى العالم وإدراكه تلك النغمة الأوروبية التي نراها لدى فلاسفة أمثال جورج سانتايانا أو لدى أجيال سابقة مثل الروائي هنري جيمس. لم يحوّل نفسه إلى محور روايته وتفادى التفاخر: عمّق الخيال اهتمامه بالأحوال الإنسانية، ما أبعده عن الأنا التي لم يشعر بالارتياح خلال التعامل معها}.نقاط ضعف ومفاجآتلكن دراسة شاملة إلى هذا الحد لا تخلو من اقتراحات مثيرة للجدل ونقاط الضعف والأخطاء. يصب شميدت اهتمامه على أسس الأعمال الأدبية، فيما يجمع مؤلفي الروايات الرومانسية والغربية وقصص الغموض والتشويق والرعب والخيال العلمي في فصل واحد يدعوه Genre (النوع) يشعر القارئ عند مطالعته أنه يفتقر إلى الحب والشغف، وأن شميدت وضعه رغماً عنه. يشير الكاتب، كأي باحث يسعى إلى تحديد أسس الأدب، إلى أن {الأدب والسوق يلتقيان بوضوح في الأعمال الخيالية}.لا يبدو حكمه سليماً تماماً عندما يتناول نوع الخيال. أما في الخيال العلمي، فيصيب باعتباره روبرت أ. هايلين، آيزك آسيموف، أرثر س. كلارك، راي برادبيري، فيليب ك. ديك، وأورسولا ك. لوغوين أعمدة الإنجاز والتأثير. إلا أنه يضيف إليهم مايكل كريشتون، كاتب حقق نجاحاً تجارياً، بيد أنه لا يستأهل أن يُدرج مع عمالقة كبار كهؤلاء.يقترف شميدت أيضاً خطأ فادحاً في هذا القسم، مشيراً إلى أن المحرر الذي أسهم في صوغ أعمال هايلين وآسيموف ليس سوى جيمس كامبل. لكنه في الواقع جون كامبل الابن، أحد أبرز شخصيات تاريخ الخيال العلمي.لا شك في أن كتابه كان سيحققه نجاحاً أكبر لو أنه شمل الكاتبة الراحلة أوكتافيا باتلر (2006-1947) التي روت في Kindred1979وWild Seed1980 وغيرهما من روايات قصصاً مؤثرة عن العرق والجنس. أوَلا يُعتبر أيضاً والتر موزلي بمجموعته الواسعة من الروايات عن حياة الأميركيين المتحدرين من أصول أفريقية نظيراً في القرن العشرين لأنتوني ترولوب أو هونوري دو بالزاك المدرجين كليهما في الكتاب؟في المقابل، أصاب شميدت بوصفه إليمور ليونارد بأنه الروائي الذي التزم بمتطلبات الروايات الغامضة وتخطاها، مشيراً إلى أن كتبه تحتوي على {ما لا يمكن تفسيره، على لغز الوسيط العميق}. ويلجأ شميدت مجدداً إلى الأدب ليؤكد عشقه لليونارد، ذاكراً أن مارتن أميس اعتبر Get Shorty (1990) {تحفةً فنيةً}، وأن فيليب هنشر شبّه هذه الرواية بإيتالو كالفينو.علاوة على ذلك، يحتوي The Novel: A Biography مفاجآت سارة. صحيح أنني أحببت دوماً روايات دونالد بارثيلم الخيالية القصيرة، إلا أن شميدت يستفيض في التعبير عن تقديره وإعجابه بهذه الروايات، وخصوصاً The Dead Father 1975، ويعلن بارثيلمَ الوريث المباشر لفلام أوبراين المبدع. وفي فصل Truths in Fiction, The Metamorphosis of Journalism، يتناول شميدت هانتر س. تومبسون كروائي جدي، وخصوصاً في Fear and Loathing in Las Vegas (1971)، مشيراً إلى أننا وراء راوول ديوك و{محاميه الدكتور غونز (محام بدين من ساموا يرتدي قمصاناً مميزة) نرى خيال دون كيشوت الطويل المنحني وسانشو بانزا البدين والقصير القامة}.يكتب شميدت في مقدمة كتابه: {بدأت تأليف الكتاب معتمداً على نظرية متكاملة عن الرواية. لم أرد إثبات أي نقطة... وإذا استخلصنا نظرية ما من هذا العمل، تكون أن الرواية الناجحة تنتمي دوماً إلى عائلة ملتزمة. فمهما كانت الغاية من الرواية في العهد الذي كُتبت فيه، لا تستمر بسبب مواضيعها أو أهدافها، بل نتيجة مزايا أخرى ترتبط بالشكل، اللغة، الابتكار، والرفض المتواصل لكل ما هو مبتذل وقد يقلل من جودتها}.
توابل
«The Novel : A Biography» لمايكل شميدت... الحياة والتاريخ والروابط الأدبية
04-08-2014