الاقتصاد العالمي ومخاطر الأحداث النادرة

نشر في 24-03-2014
آخر تحديث 24-03-2014 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت إن التقلبات التي تشهدها اقتصادات العالم مرجعها في الأغلب الأعم إلى القصص التي نسمعها ونقصها عنها، وفي بعض الأحيان تمثل لنا مثل هذه الروايات ذات القيمة العاطفية مصدر إلهام يجعلنا ننفق ونبني مصانع جديدة ونشيد بنايات للمكاتب ونستأجر العمال والموظفين؛ وفي أحيان أخرى تزرع هذه الروايات الخوف في قلوبنا وتدفعنا إلى الامتناع عن التحرك، وادخار الموارد، وتقليص الإنفاق، والحد من خوضنا للمجازفات. إي أنها إما تحفز غرائزنا الحيوانية أو تكبتها.

في زيارة قمت بها إلى اليابان لإلقاء محاضرات، أذهلني ما رأيته من تأثير إيجابي تخلفه القص المرتبطة بالاقتصاد على تفكير الناس وسلوكهم، كما أدهشني مدى هشاشة هذا التغيير، فمنذ تولى رئيس الوزراء شينزو آبي منصبه في ديسمبر 2012 وأطلق برنامجه للتحفيز النقدي والمالي والإصلاح البنيوي، كان التأثير في ثقة اليابانيين عميقا. ووفقاً لصندوق النقد الدولي فإن فجوة الناتج- الفارق بين الناتج المحلي الإجمالي الفعلي والمحتمل- ضاقت من -3.6% في عام 2011 إلى -0.9% في عام 2013.

وتفتقر أغلب بقية بلدان العالم إلى سرد شامل يسهل فهمه لتغير إيجابي مماثل لما يسمى "اقتصاد آبي" في اليابان. فلا تزال فجوة الناتج في الاقتصادات المتقدمة الكبرى وفقاً لحسابات صندوق النقد الدولي مُحبِطة، عند مستوى -3.2% في عام 2013، ويُعَد هذا أقل من نصف طريق العودة إلى الوضع الطبيعي بعد عام 2009، وهو أسوأ أعوام الأزمة المالية العالمية، عندما كانت الفجوة -5.3%.

ويبدو أننا أصبحنا تحت رحمة رواياتنا، فمنذ عام 2009، اكتفى أغلبنا بانتظار قصة ما قد تزرع الأمل والثقة بقلوبنا، وتعيد النشاط والحياة إلى اقتصاداتنا.

ولنتذكر هنا قصة الطفرة العقارية في الولايات المتحدة وبلدان أخرى في النصف الأول من العقد الماضي. لم تكن تلك قصة "فقاعة"؛ بل كانت بدلاً من ذلك طفرة رواج، أي بمنزلة انتصار للمؤسسة الرأسمالية في الألفية الجديدة.

وكانت هذه القصص بالغة القوة لأن عدداً كبيراً من الناس استثمروا فيها نفسيا وماليا. وكانت أغلب الأسر تمتلك مسكنا، وبهذا فإنها كانت مشاركة تلقائياً في طفرة الرواج. والواقع أن العديد من مالكي المساكن انساقوا وراء لهفتهم إلى زيادة مشاركاتهم في الازدهار والشعور بأنهم من دُهاة الرأسمالية، فاشتروا منازل أكثر تكلفة مما كانوا ليفعلوا عادة.

ومع النهاية المفاجئة للطفرة في عام 2006 انتهت أيضاً القصة المعززة للذات، ولم نكن جميعنا مستثمرين عباقرة على أي حال، فقد علمنا أنها كانت مجرد فقاعة، وقد تلقت ثقتنا بأنفسنا مستقبلنا ضربة موجعة، الأمر الذي أدى إلى تثبيط الرغبة في خوض المجازفات.

ثم اندلعت الأزمة المالية فأرعبت العالم بأسره، وهي قصة الفرصة والثراء التي تحولت إلى قصة أبطالها مقرضو الرهن العقاري الفاسدون، والمؤسسات المالية المفرطة في الاستدانة، والخبراء البلداء، والأجهزة التنظيمية الأسيرة. وكان الاقتصاد يتمايل مترنحاً كسفينة بلا دفة، وانسَلّ المشغلون الدهاة الذين خدعونا حتى أقنعونا بالصعود على متن سفينتهم- ولنسمهم شريحة الواحد في المئة- إلى قوارب النجاة الوحيدة.

وبحلول أوائل عام 2009 كان الهبوط في أسواق الأسهم في مختلف أنحاء العالم قد بلغ الحضيض، وكان الخوف من الكساد العميق، وفقاً لدراسة مسح ثقة المستهلك التي أجرتها جامعة ميتشغان، عند أعلى مستوياته منذ أزمة النفط الثانية في أوائل ثمانينيات القرن العشرين. وبدأنا نسترجع قصص الكساد الأعظم في ثلاثينيات القرن العشرين من أعماق ذاكرتنا البعيدة- أو من ذاكرة آبائنا وأجدادنا- ونعيد روايتها.

ولكي نفهم لماذا ظل التعافي الاقتصادي ضعيفاً للغاية (باستثناء سوق الأسهم) منذ عام 2009، فينبغي لنا أولاً أن نحدد أي القصص كانت تؤثر في الحالة النفسية الشعبية. يتلخص أحد الأمثلة في التقدم السريع في مجال الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر اللوحية، ففي عام 2007، أطلقت شركة أبل طراز الآي فون، وأطلقت غوغل هواتف الأندرويد في عام 2008، تماماً مع بداية الأزمة، ولكن أغلب نمو الشركتين كان منذ ذلك الحين. ثم أطلقت أبل الآي باد في عام 2010. ومنذ ذلك الوقت دخلت هذه المنتجات وعي الجميع تقريبا؛ فنحن نرى الناس تستخدمها في كل مكان، في الشارع وردهات الفنادق والمطاعم والمطارات.

ولابد أن تكون هذه قصة معززة للثقة: فهناك تكنولوجيات مذهلة جديدة تنشأ، والمبيعات في رواج، وروح المبادرة التجارية باقية وفي خير حال، ولكن التأثير المعزز للثقة الناجم عن الطفرة العقارية السابقة كانت أقوى كثيرا، لأن تأثيرها كان ملموساً بشكل مباشر بين عدد أكبر من الناس، ولكن هذه المرة، ترتبط قصة الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر اللوحية في واقع الأمر بشعور من التشاؤم، لأن الثروة المتولدة عن هذه الأجهزة تتركز فيما يبدو بين عدد ضئيل من رجال الأعمال في قطاع التكنولوجيا والذين ربما يعيشون في بلدان بعيدة.

وقد أيقظت هذه القصص في أنفسنا الخوف من تفوق آخرين علينا على السلم الاقتصادي، والآن بعد أن أصبحت هواتفنا تتحدث إلينا (أطلقت شركة أبل نظام سيري، وهو عبارة عن صوت اصطناعي يجيب أسئلتنا المنطوقة، في أجهزة الآي فون عام 2010) تأججت مخاوفنا من حلول هذه الأجهزة محلنا، تماماً كما تسببت موجات سابقة من التشغيل الآلي في جعل الكثير من رأس المال البشري عتيقاً عفا عليه الزمن.

وقد حظيت بشرف الاجتماع برئيس الوزراء شينزو آبي في هذه الرحلة، وهو ملتزم بالنص، فيحكي قصة تدور حول اتخاذ تدابير عنيفة وحاسمة ضد المشاكل الاقتصادية التي ابتليت بها اليابان لعقود من الزمان، والحق أنه يلهم الناس الثقة؛ وقد شعرت بهذا على الفور.

كما يوصف آبي بأنه يحيي الحس الوطني، بل حتى الشعور القومي، ورغم أنني لم أسمع شيئاً من هذا منه في لقائي به، فأظن أنه قد يشكل جزءاً أساسياً من قصته أيضا. فالقومية على أي حال ترتبط ارتباطاً جوهرياً بالهوية الفردية، وهي تخلق قصة لكل فرد في الأمة، قصة تدور حول ما يستطيع أن يفعل كجزء من بلد ناجح. والواقع أن بعض خطوات آبي الأكثر إثارة للجدل، مثل زيارته لضريح ياسوكوني رغم الاعتراضات الصينية والكورية، كانت سبباً في زيادة تأثير القصة.

ولكن ليس من السهل رغم هذا أن يدير زعماء وطنيون، حتى أولئك الذين يتمتعون بمواهب آبي، مثل هذه القصص بنجاح، تماماً كما يجد صانعو الأفلام صعوبة كبيرة في تقديم أفلام ساحقة النجاح في كل مرة. ولا يستطيع أي زعم أن يشكل على الدوام الروايات التي تؤثر في الاقتصاد، ولكن هذا لا يستبعد الحاجة إلى المحاولة دوما.

* روبرت جيه. شيلر | Robert J. Shiller

حائز جائزة نوبل في علوم الاقتصاد لعام 2013، وأستاذ الاقتصاد في جامعة ييل، والمؤلف المشارك، مع جورج أكيرلوف، لكتاب "غرائز حيوانية: كيف تحرك سيكولوجية البشر الاقتصاد ولماذا يشكل هذا أهمية بالنسبة إلى الرأسمالية العالمية".

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top