عجز الموازنة والتفكير خارج الصندوق
المطلوب الآن وقبل حدوث العجز الفعلي في الموازنة العامة للدولة، هو التفكير خارج الصندوق والاسترشاد بالتجارب الإنسانية المبدعة، ثم ابتكار نماذج اقتصادية واجتماعية جديدة تتناسب مع مرحلة تطورنا وظروفنا وإمكانياتنا وتستهدف تحقيق العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة من أجل المحافظة على استقرارنا السياسي وأمننا الاجتماعي.
إذا ما استمرت السياسات المالية الحالية المنحازة على ما هي عليه الآن فمن المؤكد حدوث عجز فعلي في الموازنة العامة للدولة في السنوات القليلة القادمة، لذلك فلا خلاف إطلاقا بأننا بأمس الحاجة لتغيير سياساتنا المالية والاقتصادية الحالية وتنويع مصادر الدخل القومي وتحويل اقتصادنا تدريجياً من اقتصاد ريعي معتمد بشكل أساسي على تصدير النفط إلى اقتصاد منتج. بيد أن المشكلة هي أن جميع الحلول الحكومية المتداولة حالياً لمواجهة العجز المحتمل في الموازنة العامة للدولة لا تزال تدور في دائرة توصيات صندوق النقد الدولي الشهيرة التي تركز على الخصخصة الشاملة (البيع الكامل للقطاع العام المملوك للدولة)، وزيادة الرسوم، وإلغاء كل أشكال الدعم الاجتماعي أو تخفيضها إلى الحد الأدنى، وفرض رسوم جديدة وضرائب مباشرة وغير مباشرة، وهي توصيات تدفع نحو تبني نماذج اقتصادية مستهلكة أثبتت تجارب الدول التي تبنتها كمصر وتونس، مثالاً لا حصراً، عدم قدرتها على تحقيق التنمية المستدامة وفشلها في المحافظة على التوازن الاجتماعي وانحيازها بشكل صارخ لمصلحة كبار الأثرياء على حساب متوسطي الدخل والفقراء.
لدينا كما هو معروف ثروة مالية هائلة لكنها تُبدد في غير أغراضها نتيجة لسوء الإدارة العامة وتزاوج السلطة والمال واستشراء الفساد لا سيما الفساد السياسي، لهذا فمن الظلم الاجتماعي تحميل المواطنين ذوي الدخول المتوسطة والدنيا نتائج عجز الموازنة العامة رغم أنهم لم يكونوا مسؤولين عن ذلك.من ناحية أخرى، فإن عدم وضع حد للفساد السياسي واستمرار توجهات المالية العامة وأولوياتها على ما هي عليه الآن لن يعني إلا شيئاً واحداً، وهو أن الحديث الإنشائي المرسل عن ضرورة "تنمية" الإيرادات العامة و"تعزيزها" لن يؤدي في نهاية الأمر إلا إلى أخذ مبالغ مالية من جيوب الفقراء كي يزدادون فقراً ووضعها في جيوب كبار الأثرياء كي يزدادا ثراءً!لهذا فإن المطلوب الآن وقبل حدوث العجز الفعلي في الموازنة العامة للدولة، هو التفكير خارج الصندوق والاسترشاد بالتجارب الإنسانية المبدعة، ثم ابتكار نماذج اقتصادية واجتماعية جديدة تتناسب مع مرحلة تطورنا وظروفنا وإمكانياتنا وتستهدف تحقيق العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة من أجل المحافظة على استقرارنا السياسي وأمننا الاجتماعي، مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال تحقيق أي إصلاحات اقتصادية أو إدارية أو اجتماعية أو أي إصلاحات أخرى ما لم يسبقها أولاً إصلاح سياسي-ديمقراطي جذري وشامل، فالحكم الصالح والرشيد هو نقطة الانطلاق نحو التنمية الشاملة والمستدامة.