يؤكد معظم الناس في مدينة دونيتسك أن القلب الصناعي للشرق الأوكراني الناطق بالروسية ليس القرم، ولكن مع حركة انفصالية أضعف وسكان موالين لروسيا أقل حماسةً نسبياً وغياب أي ظهور حتى اليوم "للرجال الخضر الصغار" (قوات روسية غامضة استولت الشهر الماضي على شبه الجزيرة في البحر الأسود وسهّلت انقسامها)، يبدو من المستبعد أن ينضم هذا الجزء من البلد إلى روسيا في المستقبل القريب.
إلا أنه مع حشد عشرات آلاف الجنود الروس على الحدود وتحذيرات الولايات المتحدة المتزايدة من غزو محتمل، لا يمكننا استبعاد أي تطور.ولكن حتى لو تنفذ القوات الروسية أي هجوم، فلا يعني ذلك أن حكومة كييف بعد الثورة لن تواجه صعوبات بالغة التعقيد في هذه المنطقة، فبدل أن تُضطر السلطات الجديدة إلى التصدي لتقدّم عسكري روسي، يشير المراقبون إلى أنها ستواجه على الأرجح انشقاقاً محلياً يعتمل ببطء ويصعّب ضبط الشرق الموالي لروسيا.يضيف المراقبون أن عملية الانتقال ما بعد الثورة في هذه المنطقة ستكون طويلة وشاقة يعرقلها الغضب المترسب في كييف والدعوات المطالبة بالمزيد من النفوذ الإقليمي.يذكر أولكسندر كليوزيف، باحث سياسي في دونيتسك: "لست متفائلاً، أعتقد أن أمامنا أشهراً من الدعوات المتفرقة المطالبة بنوع من الانفصال".رغم المخاوف الأخيرة من أن روسيا ستعزو شرق أوكرانيا بعد ضم القرم، لا يبدو المناخ السائد في دونيتسك (قلب صناعي نابض ومعقل القاعدة الشعبية الخاصة بالرئيس فيكتور يانوكوفيتش الموالي لروسيا) ثورياً.بعد التظاهرات الحاشدة الأسبوع الماضي ضد السلطات الجديدة في كييف، التي يعتقد كثيرون في هذه المنطقة أنها استولت على السلطة من خلال انقلاب "فاشي"، يسود اليوم شوارعَ المدينة التي تحدها الأشجار وجاداتها العريضة التي تعود إلى الحقبة السوفياتية هدوء ما بعد الثورة.قامت أجهزة الأمن الأوكرانية بخطوة إيجابية، فاستهدفت عدداً من الانفصاليين الأكثر تشدداً واعتقلت الناشط الأبرز في المنطقة، متهمةً إياه "بالتطرف"، بعد أن أعلن نفسه "حاكم الشعب" في منطقة دونيتسك.كذلك تتحدث بعض التقارير عن أن قادة مجموعات كثيرة تشارك منذ ذلك الحين في الصراع أُرغموا على الهرب أو الاختباء، لكن الاستياء الشعبي ما زال عارماً، ويتجلى من خلال تجمّع صغير للخيم في ساحة لينين، حيث تعمل المجموعات الموالية لروسيا على توزيع منشورات تدين "الفوضى" في ميدان الاستقلال في كييف، هذا الميدان الذي شكّل مركز تظاهرات دامت أشهراً هناك.صحيح أن هذه المجموعات، التي تشمل الحزب الشيوعي وعدداً من المنظمات الشعبية، تُعتبر هامشية، إلا أنها أشعلت المشاعر المؤيدة لروسية في دونيتسك، ويقدّر الخبراء أن نحو 30% من سكان دونيتسك يدعمون بالكامل نوعاً من التكامل مع روسيا، إلا أن نوعية الحياة المتدنية في حوض التنقيب عن الفحم الفقير هذا، حيث عانت الصناعة كثيراً منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، تعني أن هذا الدعم (الصادر خصوصاً عن الطبقة العاملة المقهورة في المنطقة) سيبقى ثابتاً نسبياً.كثر الحديث أخيراً عن "الفدرالية"، وهي خطوة يعتبر داعموها أنها ستحول دون معاناة أوكرانيا المزيد من التفكك باسترضاء المواطنين الموالين لروسيا الغاضبين من الحكومة "الوطنية" المزعومة التي أخفقت، على حد تعبيرهم، في التواصل مع الشرق.يوضح إيفاهن ريكو، ناشط في دونيتسك ينتمي إلى حزب الكتلة الروسية السياسي الذي يطالب بالفدرالية: "لا تبدي السلطات أي ردّ فعل، فلا يأتي أحد إلى هنا ليقول: حسناً! أطلعونا على اقتراحاتكم، ولنتوصل معاً إلى حل ما".يعتبر ناشطون مثل ريكو، الذي يؤكد أنه لا يدعم الحركة الانفصالية ويأسف لخسارة القرم، أن الفدرالية ستسمح لهذه المنطقة بأن تنعم بسيطرة أكبر على حياتها السياسية والاقتصادية، فضلاً عن الترويج لحقوق الناطقين بالروسية الذين يدّعون غالباً أنهم يتعرضون للتمييز المجحف.لكن منتقدي هذا الطرح يحذرون من أن الفدرالية ستشكّل منحدراً زلقاً يقود في النهاية نحو الانفصال، لأنه يقدّم نوعاً من الأطر المؤسساتية الشبيهة بما نجح الكرملين في استغلاله بسهولة في القرم.في المقابل، يتعرض المسؤولون المحليون (ينتمي معظمهم إلى حزب المناطق التابع ليانوكوفيتش، علماً أن هذا الحزب اهتز بسبب الإطاحة بزعيمه، بيد أنه لا يزال المجموعة السياسية المسيطرة في شرق أوكرانيا) للضغوط من المتظاهرين الذين يحضونهم على دراسة فكرة إجراء استفتاء شعبي بشأن وضع المنطقة وعلاقتها بأوكرانيا.أعربت النخبة في هذه المدينة عن درجات مختلفة من الدعم لاستفتاء مماثل، مع أنها لم تحسم أمرها بعد بشأن الخيارات التي سيقدمها هذا الاستفتاء أو حتى كيفية صوغ الأسئلة.لكن البعض، أمثال ماكسيم روفنسكي، المسؤول عن الاتصالات في دار بلدية مدينة دونيتسك، عبّروا عن استهجان كبير، حين لاحظوا أن قليلين يدركون الاختلاف بين "الفدرالية" بحد ذاتها و"اللامركزية" (التي تعني منح المزيد من الصلاحيات للمنطقة، علماً أن رئيس الوزراء أرسينى ياتسينيوك ذكر أنه قد يفكر في خطوة مماثلة).أعلن روفنسكي بعد السيطرة على القرم: "تشكّل الفدرالية مثالاً سيئاً لأن روسيا تبدو محصنة ضدها. رغم ذلك، ما زال الناس يطالبون بها في الشوارع". في مطلق الأحوال، عرقل المدعي العام الأوكراني في وقت سابق من الشهر الماضي قراراً اتخذه المجلس التشريعي في دونيتسك بإجراء نوع من الاستفتاء المحلي، معتبراً ألا أساس قانونيا لخطوة مماثلة.رغم تراجع زخم حركة التظاهر المناهضة لكييف في هذه المنطقة، على ما يبدو، يعتقد الخبراء أن حزب المناطق قد يسعى إلى استغلال الغضب المتفشي بغية إعادة بناء دعمه المحلي.يذكر كليوزيف، باحث في فرع دونيتسك في لجنة الناخبين: "سيحاولون السيطرة على كل تلك المشاعر الانفصالية والمتطرفة في ولائها لروسيا واستغلالها كورقة مقايضة مع كييف".تراجع دعم هذا الحزب في السنوات الأخيرة وانخفض بشكل حاد بعد هرب يانوكوفيتش من أوكرانيا، وفق كليوزيف. ولكن بعد عدد من الاجتماعات الحزبية، بما فيها اللقاء الوطني الأخير في كييف، يتطلع أعضاء حزب المناطق بالتأكيد إلى استعادة نفوذهم في منطقة لطالما ادعوا أنها معقلهم.يوضح روفنسكي، أحد مساعدي عمدة دونيتسك أولكسندر لوكياشنكو، عضو بارز في الحزب: "كان حزب المناطق قائماً قبل يانوكوفيتش وسيبقى بعده". ويضيف: "يدعو هذا الحزب إلى طرح عادي جداً: منح المنطقة المزيد من الصلاحيات، فتصبح القوة بالتالي أكثر تركزاً هنا بدل كييف".تشمل العوامل المهمة الأخرى التي لا تزال غير محسومة: تأثير النخبة الثرية الأوكرانية (مجموعة من رجال الأعمال الذين يتمتعون عادةً بنفوذ كبير في الحكومة)، وخصوصاً رينات أخميتوف، الرجل الأغنى في أوكرانيا وعملاق الفولاذ الذي ينعم بتأثير كبير في مسقط رأسه في دونيتسك.يقرّ المراقبون بأن الكرملين يستطيع دوماً تأجيج نيران الانفصال في المنطقة، مستخدماً موارده الكثيرة، لكن هذا سيتضارب على الأرجح مع مصالح أخميتوف، الذي تسيطر شركته القابضة، System Capital Management، على جزء كبير من قطاع الصناعة هناك وقد طورت علاقات وثيقة مع أوروبا.يوضح إيهور تودوروف، بروفيسور في جامعة دونيتسك الوطنية: "لا تخدم الميول الانفصالية مصالح أخميتوف عموماً، فطوال الخمس عشرة سنة الماضية على الأقل، حاول إظهار نفسه بمظهر رجل الأعمال الأوروبي المتحضر"، ولكن قد لا يكون لهذا الواقع فائدة كبيرة بالنسبة إلى السلطات، التي ترغب في التأثير في السكان، لأن جزءاً كبيراً من الغضب موجه ضد النخبة الثرية.تشمل هذه النخبة أيضاً بيترو بوروشنكو، عملاق في صناعة الشوكولا موالٍ لكييف ومرشح للرئاسة في الانتخابات التي ستُعقد في شهر مايو، وسيرغي توروتا، عملاق في مجال المعادن عينته حكومة كييف حاكم دونيتسك.يقول ريكو، الناشط في حزب الكتلة الروسية، إن التغيير في السلطة الذي شهدته العاصمة الأوكرانية لم يحقق أي هدف غير "استبدال اللصوص بلصوص آخرين". ويشير إلى حملة أخيرة طلبت من الأوكرانيين التبرع بمبالغ صغيرة من المال عبر رسالات نصية من أجل جيش البلاد الضعيف. يوضح ريكو: "لمَ لا تساهم هذه النخبة الثرية في تمويل الجيش؟ أستاء حين يعجز الناس عن رؤية الواقع".Dan Peleschuk
مقالات
مشكلة أوكرانيا التالية
03-04-2014