أمين معلوف في «ليون الإفريقي»
مقاربة الرواية التاريخية لابد أن تقودنا إلى جدلٍ محتمل حول ما هو «تاريخي/ وقائعي» وما هو «روائي/ فني» في مثل هذا اللون من السرديات. ويبدو أن هذا المنحى الجدلي كان قد بدأ منذ والتر سكوت رائد القصة التاريخية في القرن التاسع عشر، حين اتهمه معاصروه بأنه كان يعبث بالتاريخ ويحوّره في سبيل القصة وإنه كان يغيّر التسلسل الزمني للحوادث ولم يكن يحافظ على الأجواء والبيئات التاريخية.هذا الحديث عن مكونات «القص التاريخي» وبنيته يمكن أن يبقى مشروعاً مفتوحاً في رواية مثل «ليون الإفريقي» لأمين معلوف. فالعمل وإن اعتمد هيكله البنائي على تاريخ سقوط غرناطة بيد القشتاليين في القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي وخروج آخر ملوكها أبي عبدالله الصغير خروج المدحورين منهياً عهد العرب في الأندلس، إلا أن هذا الهيكل كان أيضاً يبني حجارته من خامات الفن الروائي الذي بدا متقدماً في سجاله على الحدث التاريخي. ولو ظلت الوقائع التاريخية في «ليون الإفريقي» هي ركيزته الوحيدة لتحوّل العمل بالضرورة إلى كتاب من كتب التاريخ. ولكن وجود عنصر الحبكة الروائية المتنامية والمغزولة حول الشخصية الأساسية وهي شخصية «الحسن بن محمد الوزان»، بكل ما أُحيط بها من تقنيات السرد الروائي الأخرى، هو ما أعطى للعمل سمة الرواية الفنية لا التاريخ المحض.
وشخصية الحسن في الرواية تمّ التخطيط لها بتقنية عالية تضمن لها خصوصية الموقع وشمولية الرؤية وتعدد الأصوات مما يتناسب وموضوع تاريخ عام مثل سقوط غرناطة. ومن هنا اختار الكاتب لهذه الشخصية أن يكون «راوية» ينقل عن آخرين «الأم والأب والخال « أحداثاً لم يعشها هو بوعيه وإدراكه كونه طفلاً في الرابعة من عمره حين سقوط مدينة غرناطة ودخول القشتاليين قصر الحمراء عام 1492م، وكونه راويةً لأحداث لم يعشها يجعله بلا شك شاهداً على عصر بحيادية وتجرّد وعلى وقائع لا يمتلك أن يتخذ إزاءها موقفاً أو رأياً. ومن هنا سهل أن تتعدد الأصوات وتختلف زوايا الرؤية بتعدد واختلاف المنقول عنهم. وميلاد الحسن في تلك الفترة المضطربة الحاسمة لم تخدم هدف حيادية الرؤية وبراءتها من الهوى فحسب، بل تأتي معبِّرة عن الرغبة في إحداث لون من التوازن أيضاً بين مدينة تنتهي ومجد يضمحل وبين انبثاق حياة جديدة وسط ذلك الركام، حياة مليئة بالتطلُّع والكشف والرغبة في تجاوز الواقع المتهالك.تأتي أحداث الرواية بكاملها مروية من قِبَل «الحسن» الذي وإن استقى معلوماته من مصادر أخرى «الأم والأب والخال»، إلا أنه استطاع أن يصوغ كل تلك الأحداث بلسانه ويطوّعها لتوارد خواطره ويراها – ولعله العنصر الأهم – رؤيةً فوقية مستشرفة ومستقرئة لعموم إحداثياتها وتفاصيلها وعامها وخاصها. ومن هنا يمكن للمتأمل أن يتعرف على هذه الرؤية التي تبدو في صورة الدوائر المُتضامّة التي تنداح واحدة عن أخرى خالقة ثلاث دوائر أساسية، الدائرة الكبرى وهي دائرة التاريخ العام الذي يشكل ملامح الأمم وتجاربها الكبيرة وصراعاتها، ثم الدائرة الوسطى وهي دائرة المدينة «غرناطة» وأحوالها إبان حكم السلطان أبي الحسن علي بن سعد النصري ثم ابنه محمد الملقب بأبي عبدالله ، ويندرج في هذه الدائرة أحوال الناس من رجال دولة ومتنفّذين وجند ومتآمرين وتجار ورعية... إلخ، وهذه الدائرة ذات صلة بالحسّ الجمعي أو التجربة الجمعية التي يندرج تحتها نمط الواقع الثقافي والاجتماعي. ثم تأتي أخيراً الدائرة الصغرى وهي دائرة أسرة حسن بن محمد الوزان بأفرادها المتعددين الذين مثلوا شخوص الرواية.ويبقى في النهاية أن ثمة تشابكا وظيفيا هاما في «ليون الإفريقي» يتمثل في علاقة «التاريخي – الحكائي» بـ«الفني – الروائي» أو «الوقائعي – الحيّ» بـ«السردي – المُتَخَيَّل»، وهذا يجعل «الروائي» مستمداً مصداقيته المرجعية من «التاريخي». ومن هنا تجري عملية إعادة إنتاج «الدلالي/ التاريخ» بواسطة التشكيل «الروائي»، لا على مستوى اللغة / القول فقط، وإنما على مستوى البنية الخارجية أيضاً. وبذلك يخرج التاريخ في «ليون الإفريقي» – وهذه هي الإضافة – من محدوديته وثباته وانحصاره في زمن حكايته إلى فضاء مُستَقبَلٍ يتكوّن فيه زمنُ قولٍ جديد.