تتعلق واحدة من أعظم المشكلات التي تعتري السياسات الخارجية والدفاعية بمدى استيعاب وإدراك الدوافع الحقيقية وراء تحرك الدول، فلا أحد يعلم نوايا فلاديمير بوتين الحقيقية تجاه أوكرانيا (وربما لا يعرفها الزعيم الروسي نفسه!). يأمل أي ليبرالي صالح أن يتمسك بوتين باحترام القانون الدولي كما يدعي، وأن تقتصر مصالحه على حماية الأقليات الناطقة باللغة الروسية، لكن يُعتبر اتفاق جنيف بين روسيا والغرب يوم الخميس خطوة شائكة، إذ يمكن أن يعني أموراً كثيرة بالنسبة إلى مختلف الفرقاء.
لنبدأ بالعبارة التالية: "يجب نزع أسلحة الجماعات المسلحة غير الشرعية كلها". من سينفذ ذلك؟ يظن الغرب أن الميليشيات المنضبطة والمسلحة والمدرَّبة التي تحتل مباني الحكومة في دونيتسك وكراماتورسك وماريوبول وسلافيانسك (حيث تعرّض الناس لإطلاق النار في نهاية هذا الأسبوع) تخضع للنفوذ الروسي، لكن ينكر الكرملين هذا الأمر، فالمقاتلون لن يتزحزحوا من مكانهم. قال أحد المتحدثين باسمهم إنهم لن يتحركوا إلا إذا تم استبدال الحكومة الأوكرانية.لنأخذ جزءاً آخر من اتفاق جنيف: "ستكون العملية الدستورية المعلنة شاملة وشفافة وقابلة للمحاسبة"، بالنسبة إلى روسيا، تعني تلك العبارة أن عملية التقسيم الفدرالي لأوكرانيا ستولّد في الحد الأدنى دولة عازلة وحيادية، لكن بالنسبة إلى الحكومة الأوكرانية، لا يمكن استبعاد احتمال الانتساب إلى الاتحاد الأوروبي.على المدى الطويل، قد تحصل تسوية محتملة في أوكرانيا بناءً على ما يُسمى سياسة القوى العظمى: إدارات مخصصة للمناطق الناطقة باللغة الروسية، وعضوية في الاتحاد الأوروبي، وحياد خارج حلف الأطلسي. تشكل فنلندا والسويد سابقتين لهذا النموذج. لكن قد يعتبر بوتين أن طريقة تعامله مع أزمة أوكرانيا تعيد فتح الجدل الفنلندي والسويدي بشأن العضوية في حلف الأطلسي.ماذا لو كان بوتين يحمل طموحات أكبر؟ كانت مقابلته المتلفزة قبل فترة قصيرة من عقد اتفاق جنيف مثيرة للقلق، فقد كان يأمل ألا يضطر إلى استعمال الصلاحيات التي منحه إياها مجلس الاتحاد لغزو أوكرانيا لكنه أضاف: "هذه الأراضي كلها كانت قد سُلّمت خلال العشرينيات من جانب الحكومة السوفياتية. وحده الله يعلم لماذا فعلت ذلك"، كما أنه استعمل العبارة القديمة "روسيا الجديدة" في إشارةٍ إلى أراضي أوكرانيا الشرقية والجنوبية على البحر الأسود.نُقلت شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا في عام 1954 لكن كانت "روسيا الجديدة" جزءاً من أوكرانيا منذ فترة أطول بكثير، وإذا أصبح أي تعديل حدودي قديم يعود إلى العشرينيات لقمة سائغة الآن، فقد تصبح أوروبا والشرق الأوسط أشبه بمناطق متفجرة. تعود معظم الحدود الدولية في أوروبا إلى عام 1919، حين عمد مؤتمر السلام في باريس إلى تفكيك الإمبراطوريات الألمانية والنمساوية-المجرية والعثمانية (دول فيها سلالات حاكمة مع جماعات لغوية وإثنية منتشرة).منذ ذلك الحين، تتناول الدول الأوروبية بشكل غير مباشر احتمال إعادة ترسيم الحدود، وهي تدرك مخاطر وضوابط مبدأ "تقرير المصير" الذي أكده حينها الرئيس الأميركي وودرو ويلسون. تستبعد فئة الأقليات الإثنية واللغوية في أوروبا فكرة الحدود المرسومة بوضوح، وهو مبدأ بريطاني (ضيق الأفق) وأميركي (شامل للقارة كلها).نجد ناطقين باللغة الألمانية في شرق بلجيكا وجنوب تيرول في إيطاليا، وناطقين باللغة المجرية في سلوفاكيا ورومانيا، وناطقين باللغة الروسية في جميع دول البلطيق وأوكرانيا، وناطقين باللغة الفنلندية في روسيا. في محاولةٍ شجاعة لتشريع التنوع في أوروبا، سُجّل 87 "شعباً أوروبياً"، وقد شكّل 33 منها فقط الأكثرية في الدول الأصلية. لكن بقي 105 ملايين أوروبي تقريباً من أصل 770 مليونا من "الأقليات الوطنية".نحن نتحمل مسؤولية تغيير الحدود الأوروبية بنفسنا، ولن نحصل يوماً على جواب صريح أو صائب، ومثل أوكرانيين كثيرين، يقيم رئيس إستونيا الديمقراطي الاجتماعي، توماس هندريك إلفيس، مقارنة واضحة مع مقاربة هتلر، ثم مع إلحاق الألمان السوديت بتشيكوسلوفاكيا قبل الحرب. وافق البريطانيون والفرنسيون على عملية التسليم خلال اتفاقية ميونخ في عام 1938.يحذر إلفيس (يشمل بلده أقلية واسعة تتحدث اللغة الروسية) من أن طريقة تفكيرنا كلها يجب أن تتغير إذا كنا نتكل على الافتراض الأساسي القائل إننا "لا نغير الحدود عبر التدخل العسكري ولا نطبق هذا النوع من المقاربات المستعملة في مناطق سوديتنلاند مع الجماعات الإثنية".بوتين ليس هتلر لكنه ضابط سابق في الاستخبارات السوفياتية، وهو يدرك جيداً امتيازات وسلطة الكرملين، كما أنه روسي قومي استبدادي، وإذا طُبقت المبادئ التي استعملها في أوكرانيا بشكل شامل في أنحاء أوروبا، فلا شك أنها ستصبح وصفة لنشر الاضطرابات وسفك الدماء.يتعارض موقف بوتين مع التزام روسيا الرسمي بحدود أوكرانيا في عام 1994 (مقابل نزع أسلحة أوكرانيا النووية) ومع نظرته للشيشان حيث ينكر الحق بتقرير المصير ويشدد على أن الأرض الشيشانية هي روسية طبعاً.كانت السياسة الروسية تجاه الشيشان وحشية ودموية بشكل نافر، لكن بوتين المحافظ في ملف الشيشان يُعتبر أكثر أماناً بكثير من بوتين المتطرف في أوكرانيا. من الأفضل ترك "الكلاب" النائمة وشأنها؛ لأن القومية الأوروبية إذا استيقظت فلن تكتفي بالنباح بل إنها ستعضّ من حولها أيضاً!
مقالات
على بوتين إدراك أن العبث بحدود أوروبا يضر بمصالحنا!!
28-04-2014