بعد نفاده من المكتبات أعادت {منشورات الجمل} إصدار كتاب {هولدرلين} لتسليط الضوء على هولدرلين، وعلى مترجمه عبد الغفار مكاوي، أستاذ فلسفة ومترجم وكاتب أدبي وفلسفي مصري، وأحد أفضل المترجمين من اللغة الألمانية إلى العربية. ترجم أعمالاً لـ كانط وهايدغر، إضافة إلى أعمال أدبية ونقدية كثيرة. ولد في 11 يناير 1930، في محافظة الدقهلية. حائز جائزة الدولة المصرية التقديرية في الآداب من المجلس الأعلى للثقافة، (2003).

Ad

يقول مكاوي في مقدمة كتابه: {من الخطأ أن نحاول وضع هولدرلين في تيار أو حركة أو مدرسة أدبية، لأنه سيخرج منها ويبقى ظاهرة فريدة في حياته وشعره. فالبعض يضعه في الحركة الهيللينية الجديدة، وآخرون يضمونه إلى التراث الإنساني والديني (البروتستنتي). ومنهم من يتحدث عنه كشاعر كلاسيكي أو رومانتيكي، وقد يُضم إلى طائفة كبيرة من الشعراء من مختلف البلاد والعصور، شاركهم الإيمان بوظيفة الشعر الدينية قبل وظيفة سواها. مع ذلك، يبقى هولدرلين شاعراً وحيداً فريداً بكل معنى الكلمة. فكتب تاريخ الأدب لا تضعه مع الكلاسيكيين ولا مع الرومانتيكيين، وإنما تفرد له مكاناً بينهما، مع أديب عذبه قدره وصارعه حتى سقط، وهو الكاتب المسرحي والقصصي العظيم هينريش فون كلايست}.

حرمان

ولد هولدرلين سنة 1770 في بلدة صغيرة على نهر النيكر في ألمانيا، توفي والده وهو طفل، وتزوجت أمه. تنقل بين مدارس عدة، ثم دخل معهد الوقف الديني الشهير في مدينة {توبنجن} (1788 -1793) لدراسة اللاهوت. تأثر في تلك الفترة بشخصية شيلر وشعره الفلسفي، فكتب قصائده الغنائية التي وجهها إلى المثل الإنسانية كالحقيقة والحرية والجمال والصداقة والحب والشباب والجسارة.

دخل هيغل المعهد نفسه في ذلك العام (1788) وأصبحا صديقين، ثم دخل شيلينغ المعهد بعدهما بسنتين، وتعرف إليه الشاعر عن طريق هيغل. كان شيلينغ موضع إعجاب المعهد كله، لصغر سنه وعبقريته، لكن الشاعر لم يستطع أن يكسب صداقته الحقيقية أبداً، إذ كان الفيلسوف الصغير شديد الإعجاب بنفسه، ميالاً إلى النفور، على عكس هيغل الذي كان الأقرب إلى نفس هولدرلين.

بعد تخرجه في المعهد الديني، عاش هولدرلين عشر سنوات مليئة بالحرمان والسعي الخائب من بيت إلى بيت في سبيل لقمة العيش التي كان يشقى في الحصول عليها من الدروس الخصوصية. فعمل مربياً لإحدى العائلات وبدأ كتابة روايته {هيبريون} التي نشر شيلر شذرة منها في مجلته {تاليا}، وتعرض لسلسلة من الإخفاقات في حياته العملية، إذ فشل في الاستقرار، وانصرف عنه شيلر الذي كان يرعاه أيضاً.

عاش هولدرلين من 1798 إلى 1800 مع صديقه اسحق فون سنكلير في مدينة هامبورغ، وأتم رواية {هيبريون} وبدأ العمل في مسرحية {موت أنبادوقليس}، وكتب قصائد غنائية ومقالات فلسفية.

حاول تأسيس مجلة {أيدونا} لنشر المبادئ الإنسانية التي يؤمن بها، ولكن المشروع مات قبل ولادته، فهام في البلاد بحثاً عن لقمة العيش، ثم عاد إلى بلدته تورنجتن وأقام مع والدته حتى 1804، وعكف على ترجمة مسرحيتي {أوديب ملكاً} و}أنتيغون} لسوفوكليس، وبعض قصائد بندار وأناشيده الأولمبية والبيئية، وكتب مجموعة من أنضج أشعاره.

عندما ازداد عليه المرض غادر بيت والدته وراح يتنقل في البلاد حتى استقر في مصحة الأمراض العقلية في مدينة {توبنجن}، ولما يئس الأطباء من شفائه تسلمه النجار {تسيمر} وأواه في بيته، فعاش فيه بقية عمره كالشبح الهادئ الهائم في ليل الجنون. وأقبل الموت فخلصه من حلمه أو من نومه الطويل في السابع من يونيو 1843.

ظل هولدرلين يقول الشعر حتى بعدما غاب عن الوعي والحياة ولم يعد يهزه شيء مما يجري حوله في عالم السياسة أو الأدب. لكن شعره لم يزد عن بضع قصائد قصيرة أو أبيات قليلة إرضاء لزواره المحبين أو المتطفلين، وكانت أشبه بالبروق المفاجئة أو الكلمات التي تخرج من شفتي أخرس.

أما قصائده الكبرى المتأخرة التي كتبها خلال صراعه مع المرض (1801 و1804): {العودة للوطن، التجوال، نهر الراين، الاحتفال بالسلام، الوحيد، باطموس، ذكرى، إلى العذراء}... وغيرها من قصائد، فحلقت في أجواء بعيدة موغلة في الغموض والوحشة والظلام، وصارت كلماتها أشد وحدة وكتماناً مما كانت في قصائده السابقة، وطرقت معاني جديدة وصوراً ورموزاً كثيفة توشك أن تستعصي على الفهم.

يميز كتابة مكاوي عن هولدرلين أنها أشبه بنصوص أدبية وتأويلات للشاعر الألماني، مكتوبة بطريقة فيها بعد فلسفي عميق. ورغم صعوبة شعر هولدرلين فإن القارئ يمكن أن يتبحر فيه بعد قراءة مكاوي للتواصل مع عالمه.

من قصيدته {كبلر}:

روحي تسري بين النجوم،

تسبح فوق ساحات السماء

وتتفكر، دربي وحيد وجسور

يتطلب الخطوة الثابتة.

تجول بقوة كما يفعل البطل

ارفع وجهك، لكن لا تسرف في الغرور

فها هو ذا يقترب، انظر، ينحدر من الساحات العالية

حيث يهلل الانتصار، ذلك الرجل

الذي قاد المفكر في ألبيون

إلى ساحة التأمل العميق

وتقدم بجسارة ليضيء ظلمات التيه

هولدرلين في مرحلة جنونه

نحاول عبثاً أن نخفي القلوب في الصدور، ونحاول عبثاً

من صبية ومعلمين متمرسين أن نكبح جماح الإقدام،

فمن ذا الذي يمكنه أن يقف في وجهه، من ذا الذي يحرم علينا الابتهاج؟

والنار الإلهية أيضاً تحفزنا بالليل والنهار على الانطلاق

هيا إذن نطالع الأفق الرحيب،

ونلتمس الحقيقة التي تعبر عن نفوسنا مهما تكن بعيدة.