{ألف في أحرف كثيرة} لسمير صايغ... فن الحرف جزء لا يتجزأ من جماليات الوجود
{ألف في أحرف كثيرة} عنوان كتاب جديد ومعرض للشاعر والناقد والرسام التشكيلي سمير صايغ في {غاليري أجيال} في بيروت (6 مايو- 28 يونيو). النصوص والأعمال الفنية كلاهما يسعيان إلى تحرير فن الخط العربي من اللغة العربية، ليسموا به إلى أعلى المجالات، بوصفه فناً لقراءة ما لا يمكن قراءته، وسماع ما لا يمكن سماعه، ورؤية ما لا يمكن رؤيته.
سمير صايغ من مواليد بيروت 1945، عمل في الصحافة ناقداً فنياً بين 1970 و1985، وابتداء من 1985، كرس نفسه للحروفية العربية مبيّناً طابعها الجمالي، وكانت له مساهمات مع مصممي الأزياء في باريس وبيروت.اتخذ صايغ من أحد أهم اشكال الفن في العالم العربي وأقدمه، وسيلة تعبير معاصرة، فخرج على النصوص التقليدية ونشّط تقليدا ثقافياً ما أكسبه لقب {معلم} في المجتمع الشرق أوسطي، نظراً إلى تميّزه بتحرير الخط العربي من السطور التي سجن فيها طويلاً وتقديمه كشكل عالمي.
على مدى مسيرته المهنية، عرض صايغ أعماله في العالم العربي وأوروبا، وابتكر أعمالا ضخمة للمباني والمساجد، وحاضر في الهندسة المعمارية والتصميم في الجامعة الأميركية في بيروت (1993- 2007)، ووضع دراسات ومقالات في الفن الإسلامي المعاصر.تعامل صايغ مع الخط من منظور الحداثة العربية، بحثاً عن قناعة أعمق حول الأصالة والحداثة، وعن هوية فنية شخصية. أما اللقاء الأول مع الخط فكان في مرحلة الطفولة، عندما وقف أستاذه في المدرسة أمامه وقال له: {تكتب بخط جميل}، هكذا بدأت علاقة جميلة بينه وبين الخط تجلّت في كتابة الشعر والتأمل الصوفي والنقد الفني والرسم.دور الفنانفي وقت من الأوقات شعر سمير صايغ بأن الحروفية (حركة فنية تعتبر الحرف العربي مصدر إلهام بدءاً من الخمسينيات) كانت مشوشة إلى حد ما، لأن الحروف العربية والزخرفة الإسلامية كانا عنصرين ثانويين في تأليف اللوحة المعاصرة، حتى لو تمحورت مواضيعها حول صفات عربية وإسلامية. باختصار، كانت الحروفية تعبر عن أفكار سياسية واتجاهات أكثر مما هي تيار فني، وانحصرت بقواعد وأساليب موروثة من الإمبراطورية العثمانية، ولم يخرج الخطاط عن كونه حرفياً ماهراً في أحسن الأحوال.صحيح أن الحداثة العربية كانت المحفز الرئيس في إعادة اكتشاف الماضي، خصوصاً فن الخط، لكنها، برأي صايغ، ليست الطريق الصحيح لإعطاء الخط العربي دورة جديدة من الحياة. مع أن الفن المعاصر يلتقي مع الفن القديم ولا يتعارض معه، إلا أن قراءة فاحصة للماضي قادت صايغ إلى استنتاج، مفاده أن ثمة رؤيتين في فهم معنى الفن ودور الفنان. الأولى ترى الفن مطلقاً ويقف الفنان شاهدا على وحدة الوجود، والثانية تجعل الفنان وسط العالم ويسجل فنه نجاحاً وفشلاً في حربه المستمرة مع نفسه والعالم.{لا يمكن أن يساوم العقل النقدي بين تلك الرؤيتين}، يقول صايغ، فكيف يكون الخطاط المعاصر شاهدا ومقاتلا في الوقت نفسه؟ من هنا تركزت تأملات سمير صايغ الأولى حول الخط العربي كفن ولد منذ أكثر من ألف سنة، وفي مرحلة لاحقة حاول فهم هذا الفن والنهوض به والتقدم على الدوام. ربما اليد أو العين، العين أو الروح، الروح أو العاطفة، العاطفة أو الحبر، الحبر أو القلم، القلم أو الورقة، الورقة أو البياض... نداءات ترددت في داخله فاستمع إليها وقادته في عالم الحروفية. تدور أول تجربة لسمير صايغ حول ما لا يمكن كتابته وليس ما يمكن أن يقال، لطالما رغب في تحرير الخط من اللغة ومعاني الكلمات، والعودة إلى لحظة ولادته الأولى، إلى الإشارات والرموز، الرسائل المعلقة بين الطين والماء، لذا كان من الضروري الفصل بين دور الخط باعتباره وسيلة للاتصال وبين كونه فناً جمالياً، والتمييز بين الدورين ضرورة للتعامل مع الحروفية، والغوص في تعرجاتها الجمالية، عندها يصبح فعل القراءة ثانوياً.أهداف مختلفةيقوم الخط العربي على مفاهيم وأهداف مختلفة عن الكتابة، حتى لو أنهما يشتركان في الحروف نفسها التي تنتمي إلى اللغة ذاتها، من هنا يعتبر سمير صايغ أن الخط يتميز بحالة من التمجيد، فالكتابة، أساساً، وسيلة للفهم والتوضيح، فيما الخط يبدأ عندما يتجاوز نفسه كوسيلة ليصبح هدفاً بحد ذاته، قادراً على الشروع في الحوار الخاص به. كل ما هو مطلوب، برأي صايغ، أن نقدر جماله ونتعلم كيفية قراءة هذه اللغة بأشكالها المختلفة، وفك رموزها.يوضح صايغ أن الخط الكوفي الذي دون فيه المصحف في السنوات الأولى من الإسلام هو مثال رائع للتطور والنضج وعمق هذه اللغة الجديدة القائمة على الأشكال وقدرتها على التعبير والتواصل.ويعتبر أن التأمل في الألف على سبيل المثال، يكشف تعدداً مذهلاً من الاحتمالات المستمدة من خط مستقيم، مع بعض الخيال، فهو يتحرّك ويرقص، ما يمهد الطريق لتفسيرات مختلفة أو تأمل عميق.يرى صايغ أن الزخرفة إحدى سمات الفن الإسلامي، دمجت بمظاهرها المختلفة خصائص هذا الفن وفلسفته الجمالية. لا تحاكي الطبيعة في صور واضحة، ولا تهدف إلى ذلك، بل تطمح إلى تكرار نظم خفية وراء الطبيعة، من التطور إلى النضج والإنجاب... منذ البداية، تتحد مع أنظمة هندسية وتكرر وحدة نمطية أساسية في تقاطعات مختلفة. إنها دليل على أن الأنظمة الخفية واحدة من حيث المبدأ، لكنها لسوء الحظ، تواجه الكثير من التشويه، ربما بسبب جهل قيمتها الجمالية العميقة.يحاول سمير صايغ توحيد الخط والزخرفة عبر جعل الخط زخرفة بحد ذاته. إنجاز ثقافي عظيم، برأيه، أن ينجح {رباعي الزوايا الكوفي} في بناء الحروف والكلمات، استنادا إلى تقاطع خطوط عمودية وأفقية على الزاوية اليمنى. إنه التجريد الخالص، بناء على نقطة سوداء مربعة تشكل الأساس للخطاب ونقطة بيضاء مربعة تشكل الفراغ بين الحروف والكلمات.ما هي هذه الساحات التي يتناوب عليها الأبيض والأسود، الامتلاء والفراغ، العمودي والأفقي؟ إنها الظل والضوء، الجسد والروح، الليل والنهار، وثنائيات أخرى. إنها أسماء الأنبياء والقديسين، سورة وآيات، هموم وتحديات، أسرار... هكذا تتجلى كونية الحرف في لوحات سمير صايغ الذي تأنسن وأصبح جزءاً لا يتجزأ من جوهر الوجود.