خلال الألعاب الأولمبية في سوتشي، كان الرئيس فلاديمير بوتين يتنعم بالفخر والمجد، صحيح أن هذا تطلب مبالغ طائلة من المال وصلت إلى 50 مليار دولار، لكن بوتين نجح في تنظيم هذه الألعاب الأولمبية الشتوية، فقد تدفق العالم إلى "سوتشي" وشاهد الألعاب وأثنى في النهاية على روسيا لأداء دور المضيف ببراعة. واستمتع بوتين بهذه اللحظة: فقد عادت روسيا أخيراً إلى وسط المسرح، مع أن هذا لم يدُم سوى ثلاثة أسابيع.
لم يكن مجد الألعاب الأولمبية كافياً بالنسبة إليه، على ما يبدو، فما زالت مكانة روسيا على الساحة العالمية غير مكتملة. صحيح أن الإطاحة بحليفه، الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش، في 22 فبراير شكّلت هزيمة ساحقة لبوتين، إلا أنها أتاحت أمامه فرصة ذهبية لتحقيق طموحاته الاستعمارية، ولو جزئياً.لطالما عبّر بوتين عن إعجابه بالإنجازات الاستعمارية التي حققها بطرس الأكبر، بعد إنزاله الهزيمة بالإمبراطورية السويدية وإعادته تحديد هوية روسيا كقوة عالمية جديدة في مطلع القرن الثامن عشر. كذلك أُعجب بوتين بكاثرين العظيمة التي انتصرت على العثمانيين وكانت القائد الروسي الأول الذي ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا عام 1783. إذاً، يستطيع بوتين اليوم، عند تحديده إرثه، الادعاء أنه كرر إنجازات كاثرين العظيمة. يا له من إرث!يشمل القادة الآخرون الذين يعبّر بوتين عن إعجابه بهم (وهذا مفاجئ بالتأكيد!) الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، وهو "استعماري" معاصر بحق، فرغم كل انتقادات بوتين الصريحة لسياسة بوش الخارجية الأحادية والتوسعية، كان الرئيس الروسي يطمح دوماً للتمثل بهذا الرئيس الأميركي، ففي أعماقه أُعجب بقوة ببوش وتمرده في الدفاع عما اعتقد أنه في مصلحة بلده الوطنية.قد لا يقر بوتين بذلك، غير أنه معجب أيضاً بغزو بوش العراق عام 2003، ففي رأي بوتين، يسلّط الغزو الضوء على كل "امتيازات" القوة العظمى العصرية: فرض الشروط والحدود على دول أخرى، واتباع معايير مزدوجة بصراحة، وتوسيع نفوذ البلد على الساحة العالمية، وانتهاك قرارات الأمم المتحدة بغزو أمم أخرى ساعة يشاء من دون مواجهة عواقب تُذكر. وهذا ما تقوم به القوى العظمى.إذاً، تتيح سيطرة بوتين على القرم وضمّها إلى روسيا للرئيس الروسي التمثل ببوش، وبطرس الأكبر، وكاثرين العظيمة، حتى لو كانت إنجازاته أضيق مقارنةً بما حققوه.إذا كان البعض يشككون في أن ضمّ القرم عملية خاصة مخطط لها ومدروسة بدقة، يكفي أن يتأملوا في مشروع قانون يمرَّر بسرعة في مجلس الدوما. طُرح مشروع القانون هذا قبل يوم من موافقة المجلس الفدرالي على استخدام القوة العسكرية في القرم في الأول من مارس، وهدفه تسهيل إجراءات ضمّ مناطق جديدة.بخلاف الادعاء الرسمي المشين عن أن "قوات الدفاع الذاتي التابعة للروس المحليين" هي مَن سيطر على القرم، لا الجيش الروسي، كان رعاة مشروع قانون الضم صريحين، قائلين إن هذا التشريع يرتبط مباشرة بمسألة القرم. ولا شك أنهم يستحقون بعض الثناء على صراحتهم هذه.ولكن يبقى السؤال الأهم: هل يكتفي بوتين بالقرم؟ يردد الروس مثلاً شعبياً مفاده: "تأتي الشهية مع الأكل". وعندما يبدأ بوتين بهضم قطعة من أوكرانيا والتلذذ بها، سيرغب في المزيد من المناطق الأوكرانية. تشمل الإشارات الأولى إلى رغبة بوتين التوسعية هذه ظهور سيرغي أسكيونوف الموالي للكرملين، الذي أمسك بزمام السلطة في 27 فبراير الماضي وأعلن نفسه رئيس وزراء القرم الجديد، على شاشات التلفزيون أخيراً ليخاطب سكان مناطق أوكرانيا الجنوبية والشرقية ذات الأغلبية الناطقة بالروسية. فحضهم أسكيونوف على إجراء استفتاءات انفصال خاصة بهم، وعرض عليهم إرسال "قوات الدفاع الذاتي" من القرم لحمايتهم. نظراً إلى الطريقة الوطنية المجيدة التي برر فيها التلفزيون التابع للدولة التدخل العسكري الروسي، لا عجب في أن أغلبية الروس يهللون لبوتين كما لو أنه بطل قومي بعد استعراضه قوته في القرم. فقد أشار استطلاع للرأي أجراه "مركز لوفادا" في أواخر شهر فبراير إلى ارتفاع شعبية بوتين إلى 69% مع بدء أزمة القرم، علماً أن هذه النسبة الأعلى منذ شهر مايو عام 2012.ستدوم الحماسة الاستعمارية الناجمة عن ضم القرم شهراً أو شهرين على الأرجح. ولكن بعد ذلك، سيشعر الروس بوطأة العقوبات الأميركية والأوروبية، وتراجع الروبل المستمر، وارتفاع أسعار الطعام وغيره من السلع المستوردة، وهرب رؤوس الأموال. ولا شك أن المواطنين الروس البعيدين عن القرم سيتساءلون في مرحلة ما عمّا إذا كانت طموحات بوتين الاستعمارين تستحق هذه الكفلة الاقتصادية، التي يُتوقع أن تبلغ 5 مليارات دولار سنوياً.ادعى الكرملين أن دافعه وراء التدخل العسكري حماية الروس في القرم، إلا أن الروس في كيميروفو، وكيروف، وكالوغا، وعشرات المناطق الروسية المتضررة الأخرى سيسألون بوتين عاجلاً أو آجلاً: "متى ستحمي الروس هنا في الداخل ضد الفساد، وغياب القانون، والجريمة، والفقر؟ ربما عليك بدلاً من ذلك إرسال الجنود الروس إلى مناطقنا لحمايتنا من مجموعات الجريمة المنظمة والبيروقراطيين المحليين، الذين لا يواجهون أي عقاب، واستثمار 5 مليارات دولار كل سنة في بنيتنا التحتية المتداعية".بالإضافة إلى ذلك، إذا فرض الغرب عقوبات قوية ضد المقربين من بوتين، مستهدفاً أصولهم في الخارج، فستطرح نخبة بوتين السياسية سؤالاً مختلفاً وأكثر خطورة: إذا جُمدت أصولنا، التي تبلغ قيمتها ملايين الدولارات والتي عملنا بكد كمسؤولين حكوميين لتكديسها، نتيجة طموحات بوتين الاستعمارية المتهورة، فلمَ نواصل دعمه؟".هنا تكمن نقطة ضعف بوتين، فكما سرّع فقدان يانوكوفيتش دعم النخبة الثرية والمقربين منه سقوطه، قد يحدث الأمر عينه مع بوتين. صحيح أن هذا الأخير يعتبر نفسه قائداً أقوى من يانوكوفيتش ويستبعد على الأرجح خطر أن ينقلب المقربون منه ضده، إلا أنه يخدع نفسه على الأرجح، لكن ذلك يعتمد في المقام الأول على قوة العقوبات الغربية ضد بوتين ومدى فاعليتها.صوّت سكان الكرملين يوم الأحد الماضي على استفتاء صوري نظّمته قوات الاحتلال الموالية لروسيا على عجل في أقل من أسبوعين. قدّم هذا الاستفتاء، الذي قاطعه الكثير من التتار في القرم واعتبرته معظم الدول الغربية غير شرعي، خيارَين: البقاء جزءاً من أوكرانيا أو الانضمام إلى روسيا. وفي حملة دعائية محلية مشوّهة، صُوّر هذا الاستفتاء كما لو أنه يقدّم لسكان القرم فرصة العيش بسلام، وازدهار، وأمن تحت الحماية الروسية أو البقاء ضحية التمييز والعنف كجزء من "أوكرانيا الفاشية".نظراً إلى طموحات بوتين الاستعمارية وتصميمه على تقويض الثورة الشعبية في كييف، من الواضح أن عملية ضم روسيا القرم محسومة، علماً أن الرئيس الروسي لا يأبه بما إذا كان الكثير من سكان القرم، خصوصاً الأوكرانيين والتتار المقيمين هناك، لا يريدون أن يكونوا أداة في يد روسيا مجدداً. لكن بوتين يحصل دوماً على ما يريد، ويلتزم بمبدأ ستالين الشهير: "لا تهم أصوات الشعب، فالأهم مَن يحصي هذه الأصوات".ثمة قاسم مشترك آخر بين بوتين وستالين. في عام 1940، اشتهر ستالين أيضاً بضمه مناطق أجنبية، مثل لاتفيا وليتوانيا وإستونيا. وقبل تنفيذ عملية الضم، أجرى ستالين أيضاً استفتاءات شعبية في دول البلطيق الثلاث هذه، فصوّت شعبها بقوة لمصلحة الانضمام إلى الاتحاد السوفياتي، أو هذا ما ادعاه الكرملين على الأقل.Michael Bohm
مقالات
هل طموحات بوتين الاستعمارية ستدفعه لالتهام «قرم أخرى»؟!
21-03-2014