أزمة التطور الحضاري... ذكريات وملاحظات
في إطار مهرجان القرين الثقافي العشرين وضمن فعالياته المتنوعة، نظم المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت، ندوته الرئيسة حول "أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي– إعادة تفكير– 1974– 2014"، وذلك بمناسبة مرور 40 عاماً على ندوة أزمة التطور الحضاري التي عقدتها جمعية الخريجين في الكويت أبريل 1974، وهي ندوة تعد من أهم الندوات التي عقدت في السبعينيات وما تلاها، حضرها كبار مفكري الأمة على مختلف مشاربهم الفكرية والسياسية، تم تسليط الأضواء فيها على أبرز التحديات التي واجهت العرب في سعيهم إلى تقدم مجتمعاتهم، وقدمت حلولاً وإجابات كانت كفيلة بتجاوز تلك المعوقات لو أخذت بها السلطات الحاكمة في حينها. كانت أهمية تلك الندوة التي سماها الصديق د. علي خليفة الكواري، والذي سعدت بصحبته والحديث معه في الطائرة، وفي الندوة بـ"أم الندوات" كونها أهم ندوة فكرية شخصت بشكل منهجي علل النهوض العربي ومعوقاته، وقد ظلت أعمال تلك الندوة التي طبعتها جامعة الكويت 1975 في سفر ضخم، منهلاً خصباً لكل الباحثين إلى يومنا، يتناولونها بالدراسة والتحليل، لذلك كان توفيقاً ملهماً من المجلس الوطني، تنظيم الندوة الحالية لإعادة التفكير والبحث في ما طرحته الندوة السابقة، ورص ما تحقق بعد 40 عاما.
افتتح الندوة الأمين العام للمجلس المهندس علي اليوحة، مرحباً بالحضور ومنوهاً بعراقة الدور الثقافي للكويت– رسالة وقدراً واستراتيجية– ومذكراً بالندوة السابقة ومتسائلاً عن أسباب أزمة التطور الحضاري العربي، رغم امتلاك العرب كل العوامل الدافعة للتقدم، وداعياً الحضور إلى النقد المتأني والمدروس للذات لمعرفة نقاط القوى والضعف وصولاً إلى موضع الداء وتشخيصه. وتلاه المنسق العام د. محمد الرميحي مرحباً ومشيراً إلى ندوة 1974 ومذكراً: كان الأمل يحدو الأمة أن تضيء مصابيح التنوير، مضيفاً: قطعنا أربعة عقود، شاهدنا فيها غير المتوقع وغير المعقول، كنا نعتقد أننا في ثقافة محصنة فأصبحنا في ثقافة معرضة للهجوم، كنا أكثر قرباً من فلسطين فصارت أبعد، كنا أقرب إلى الديمقراطية فصارت أبعد، كنا نطمح إلى أمة فصرنا شعوباً وقبائل وطوائف متطاحنة، كنا نقترب من العقل فزدنا عاطفة، غير أن المفاتيح هي المفاتيح ولن نتقدم حتى نعرف أنفسنا معرفة واقعية لا مثالية، وأول الطريق وجود حرية الرأي. توزعت أعمال الندوة على 10 محاور شملت الديني والسياسي والاجتماعي والتعليمي والإعلامي والاقتصادي والفكري، وعاش المشاركون على امتداد 3 أيام حافلة بالنقاشات الحماسية والمداخلات الحيوية واللقاءات الجانبية، أجواء ودية، استعادوا فيها مشاعر ومشاهد وذكريات عزيزة، خصوصا أن بينهم من كان حاضراً ومشاركاً في تلك الندوة العريقة التي عقدت بجمعية الخريجين الكويتية.ملاحظاتي على الأوراق: كانت لي مداخلات على بعضها، منها: 1- ورقة د. رضوان السيد حول مراجعته لأطروحة "التخلف العربي وأبعاده الحضارية" فهو، أولاً- يبرئ الإسلاميين حين يحمل مسؤولية التخلف لجهتين: الأولى: الحكم العسكري الذي يتهمه بأنه جرف الثقافة العربية الإسلامية واستبد وطغى ثم ارتمى في أحضان الغرب. والجهة الأخرى: كبار مفكري العرب من القوميين والتحديثيين واليساريين الذين نقدوا التراث وحالفوا حكم العسكر، إذ يرى أن في نقدهم للتراث عداء للإسلام.وكانت ملاحظتي أن في هذا القول تعميما ظالماً، مرفوضا منهجياً ومعرفياً، فنقد التراث لا يعني عداء للإسلام، ثم إن من بين هؤلاء المفكرين من كان خير مدافع عن الإسلام كالدكتور زكي نجيب محمود، ثم إنه خطأ أخلاقي أن نتهم كبار كتابنا بممالأة السلطة المستبدة لأن العكس هو الصحيح، فأكبر الناقدين للسلطة الناصرية، هو فؤاد زكريا.وأما ملاحظتي الثانية على الورقة، فإن الباحث القدير يبرر للجهاديين عنفهم حينما يرى أن التسلط العسكري وقمعه للإسلاميين هو الذي حول "الصحويات إلى جهاديات" ملخصاً الحالة الصراعية الدموية بقوله "أصوليات قائلة واجهت أنظمة قاتلة"، وهو قول يختزل كثيرا من الحقائق على الأرض، فضلاً عن كونه مناقضاً لما ذهب إليه الباحث نفسه في مقال له مؤخراً في صحيفة الشرق الأوسط، حيث ذهب إلى "لو كان التطرف رد فعل لما وضع الجنة هدفاً". ثم أين الباحث الكبير مما ورد في معظم مؤلفاته الرصينة السابقة، والمؤكدة بأن عنف الجهاديين سابق على عنف الأنظمة العسكرية، إذ هو عنف أصيل وممنهج ومؤسس على فهم منحرف يكفر المجتمع والدولة، ويصفهما بالجاهلية ويبرر العنف والخروج المسلح ضدهما، وصولاً إلى تطبيق الشريعة رغماً عن المجتمع، وأن الحاكمية يجب أن تكون لله تعالى لا للشعب أو السلطة، تبعاً لسلفهم "الخوارج القدامى" الذين خرجوا على المجتمع الراشدي، واستباحوا الدماء والأموال بحجة الحاكمية.2- المحور الإعلامي: كانت لي مداخلة تتعلق بدور الإعلام الخليجي في الترويج والتبشير والتمجيد لظاهرة الأبراج العالية وناطحات السحاب التي انتشرت في العواصم الخليجية، وآخرها الكويت التي كانت ممانعة، وذلك كأمر إيجابي ومقياس للتطور الحضاري والعمراني، في تجاهل للسلبيات الضخمة التي عكستها هذه الظاهرة من ازدحام بشري خانق وغير مبرر مشكلاً معاناة للخليجيين وعبئاً هائلاً على المرافق والخدمات من دون مردود اقتصادي وطني، وترديا في نوعية الحياة، جعلت الخليجيين يعيشون حالة "اغتراب" فريدة في أوطانهم– راجع اقتلاع الجذور للشهاوي.إننا اليوم يجب أن نتذكر بكل تقدير جهود رموز ورواد التنمية الخليجيين– د. علي الكواري وزملاؤه في منتدى التنمية الخليجي– الذين حذروا مجتمعاتنا من تفاقم الخلل السكاني وما يعكسه من آثار خطيرة على اللغة والثقافة والهوية، فلم تستمع مجتمعاتنا لتحذيراتهم، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم من طوفان بشري خانق، فالخليجيون الذين يمتلكون أعظم المداخيل اليوم لا يعيشون مستوى من الحياة السعيدة كما كانوا من قبل عندما كانت مداخيلهم أقل، ووصل الأمر مؤخراً بالكاتب السعودي جمال خاشقجي أن يقول "التحدي المقبل هو إقناع المسؤولين بأن النهضة هي في تحقيق– نوعية حياة أفضل– وهذا لا يكون بمدن أكثر اتساعاً وأعلى بنياناً، إنما بمدن أنيقة مكتفية بسكانها الأصليين ومواردها الطبيعية، سعيدة بحياتها، وأقل ازدحاماً في طرقها، وأقل كلفة تسييراً وصيانة.* كاتب قطري