هكذا اغتالوا وائل أيضاً!

نشر في 12-03-2014
آخر تحديث 12-03-2014 | 00:01
 صالح القلاب عندما سمعت نبأ جريمة اغتيال رائد علاء زعيتر، على معبر الكرامة، وهو في طريقه إلى مدينة نابلس الخالدة في "جبل النار" عادت بي الذاكرة إلى أوائل سبعينيات القرن الماضي، عندما تعرفت على وائل زعيتر ابن أسرة الأدب والعلم... والده عادل شيخ المترجمين العرب، وعمه أكرم القامة الوطنية الأردنية والفلسطينية الشاهقة... كان وائل أحد رموز رواية "رجال في الشمس"، التي أبدعها غسان كنفاني عام 1963، وكل هذا، وهو كان عمل في وزارة الأشغال في الكويت قبل رواية غسان كنفاني بنحو ستة أعوام. وأذكر أنه وصف لي وصفاً دقيقاً كيف كانت قدماه المحشوتان في "بسطار" عسكري قديم تلتصقان بـ"أسفلت" الشارع الذي كان يعمل في تعبيده مع آخرين، وكيف كان زملاؤه يبذلون جهوداً كبيرة لانتشاله من ذلك الالتصاق.

لم أعرف في حياتي مؤدباً ومثقفاً ومتواضعاً مثل وائل زعيتر، وكنا نمضي معه وزملاء آخرون ساعات طويلة في ليالي بيروت الشتائية... من المساء حتى انبلاج فجر اليوم التالي، وكان يحدثنا بتفاؤل عن حلم "العودة" وحلم "التحرير" والربابة والموسيقى والرقص الشعبي ودلالاته الاجتماعية والدينية، وكان يأكل القليل ولا ينام طويلاً، وكان عند ذكر "الثورة" لا يتحدث عن الرصاص ولا عن الدماء، بل عن ثقافة شعب عريق ورث أمجاد الفينيقيين والكنعانيين، وأمجاد العرب والإسلام، وأمجاد دمشق وبغداد والأندلس، وأمجاد رهبان الأديرة المترجمين الذين بإبداعاتهم العظيمة لاقحوا بين الحضارة العربية-الإسلامية وثقافات شعوب المتوسط، امتداداً نحو الشرق إلى الهند والصين.

لم يذهب وائل زعيتر إلى روما كموظف وكرئيس لمكتب منظمة التحرير في العاصمة الإيطالية، بل ذهب كأديب وكمثقف سارع لتأسيس لجنة للتضامن مع القضية الفلسطينية، ساهم فيها الكاتب الإيطالي الكبير ألبيرتو مورافيا والمسرحي الفرنسي المعروف جان جينيه، الذي أقام فترة في جرش، والمؤرخ العظيم مكسيم رودنسون والموسيقار برونو كاليي، كما ساهم فيها كبار القادة من الاشتراكيين والشيوعيين الإيطاليين... لقد كان همه أن يدحض الأكاذيب الإسرائيلية وأكاذيب بعض الصحف ووسائل الإعلام الغربية التي كانت تدعي أن فلسطين أرض بلا شعب، وأنها يجب أن تكون لشعب بلا أرض، وأن الفلسطينيين هم مجموعات من المتوحشين والقتلة والإرهابيين... وكان عليه أن يؤكد أن فلسطين أرض لشعب هو الشعب الفلسطيني، وأن هذا الشعب أبدع في كل شيء، وساهم في ثقافة وحضارة هذه المنطقة، وأرسل إلى أربعة رياح الأرض، من الولايات المتحدة حتى اليابان، من أثروا الإبداعات البشرية... وأن هناك أسماء كثيرة معروفة ومشهورة.

لقد أخاف هذا النهج الإسرائيليين، وشعروا أن الأخطر على مشروعهم الاستيطاني الإمبريالي، الذي يستند إلى الخرافات والأساطير، أن يعرف العالم الوجه الحضاري والثقافي لفلسطين والشعب الفلسطيني، وأن تترسخ هذه الحقائق لدى المبدعين مثل ألبيرتو مورافيا وجان جينيه ومكسيم رودنسون وبرونو كاليي، وغيرهم كثيرون من القادة الشيوعيين والاشتراكيين الذين كانوا يشكلون طليعة للمثقفين الغربيين الذين يؤيدون كفاح الشعوب ضد مغتصبي أوطانها، ولذلك فإن الدوائر الرطبة والمعتمة في إسرائيل أرسلت إليه رجال "الموساد" المنتفخين بالأحقاد ليقتطفوا حياته برصاص رشاشاتهم الملثمة بـ"كواتم الصوت" في الساعة العاشرة من صباح يوم السادس عشر من أكتوبر عام 1972 عند مدخل شقته في ساحة هانيبال في أحد أحياء العاصمة الإيطالية التي تعتبر راقية.

لم يستهدف "الموساد" الإسرائيلي برصاصه وبكواتم أصوات رشاشاته وائل زعيتر فقط... بل استهدف الإبداع الفلسطيني وما يعتبرونه الخطر الحقيقي على رواياتهم التاريخية الكاذبة لفلسطين ولهذه المنطقة كلها، واستهدف أيضاً غسان كنفاني وكمال ناصر ومحمود الهمشري وسعيد حمامي... واستهدف أيضاً مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت خلال غزو عام 1982، وحيث تم التشنيع بالمخطوطات التاريخية وتدنيسها وسرقتها والتخلص من معظمها بالنيران والتمزيق.

وبالعودة إلى جريمة اغتيال القاضي رائد علاء زعيتر فإن الأهم من مجرد إطلاق الرصاص على إنسان فلسطيني، وهو في الطريق إلى بلده وبلد آبائه وأجداده منذ بداية التاريخ وحتى نهايته، أن الإسرائيليين كلهم... كلهم وبدون استثناء يتقصدون إهانة الفلسطينيين واحتقار العرب وحضارتهم ودورهم في التاريخ، ولذلك ولأنهم مازالوا يتعاطون مع الآخرين بعقلية "الغيتو" التي تعاطوا فيها مع الألمان ومع الغربيين، وكانت سبباً ومسبباً للمذابح الهمجية المرفوضة التي تعرض لها اليهود على أيدي النازيين وغيرهم فإنهم تعاملوا مع العائدين إلى وطنهم لـ"الزيارة" فقط ليسوا كبشر وإنما كغرباء و"كبهائم"، والعياذ بالله، وهكذا ولأنهم تقصدوا إهانة هؤلاء أطفالاً ونساءً ورجالاً فإن هذا كان يجب أن يثير مشاعر القاضي العادل وأن يدفعه للردِّ على المعلقة بنادقهم فوق صدورهم، والذين لا يريدون الاعتراف بأن هؤلاء بشر، وأن هؤلاء أهل الأرض الحقيقيون، وأنهم يجب أن يتعاملوا مع الفلسطينيين بكل احترام بدل أن يتعاملوا بالأساليب والوسائل الاستعلائية التي تعزز الأحقاد ودوافع الثأر في صدورهم.

لقد قضى رائد علاء زعيتر، رحمه الله، شهيد قضية إنسانية قبل أن تكون قضية وطنية وسياسية... ولهذا علينا أن نتعامل مع هذه القضية بكل هذا المستوى الخطير... فإما أن يرتدع الإسرائيليون وأن يكفوا عن احتقار الفلسطينيين فوق أرضهم الفلسطينية وإما علينا أن نعاملهم بالمثل، وأن نفتشهم كما يفتشوا أهلنا وأبناءنا، ونرعبهم كما يرعبوا أطفالنا ونساءنا... فالعين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم!

back to top