الأميركيون يغفلون حسابات التاريخ والجغرافيا بسذاجة!
يعتقد الأميركيون أنهم يفهمون العالم، لكن انفصالهم عنه، بمثاليتهم، وسذاجتهم، وعجرفتهم، وأسلوبهم العملي المبالغ فيه القائم على هذا الانفصال عن العالم تشير إلى واقع مختلف تماماً؛ لذلك إذا أرادت الولايات المتحدة التأثير في العالم بطريقة فاعلة ومختلفة عما نراه اليوم، فمن الضروري أن يتبدل الوضع.
كشفت الأزمة الأوكرانية أن ثمة وقائع مهمة بشأن تاريخ العالم والجغرافيا لا يفهمها الأميركيون حقاً، وبينما يحاول العالم تقبّل خطوات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين العدائية ويفكر في الخطوات التالية التي قد تقدِم عليها روسيا أو قوى أصغر منها حجماً، إليكم نقاطاً أساسية عن هاتين القوتين البالغتي الأهمية (خصوصاً علاقة الولايات المتحدة بهما) يجب ألا يغفل عنها الأميركيون، فمن الضروري فهمها جيداً.تشكّل الولايات المتحدة جزءاً من العالم، ولكن هل تفهمه حقاً؟
خسرت الولايات المتحدة الواقعة بين قوتَين مسالمتين في الشمال والجنوب وبين محيطين في الشرق والغرب القدرة (هذا إن امتلكتها أساساً) على التفكير والشعور كقوة تتأثر بالجغرافيا والتاريخ. قد يظن البعض أن تجارب هذه الأمة في العراق وأفغانستان علّمتها الكثير من الدروس في هذا المجال، لكنها استخلصت بالتأكيد درساً واحداً: باتت الولايات المتحدة أكثر حكمةً واستعداداً في تفادي المخاطر، خصوصاً في ما يتعلق ببناء الأمم والتدخل في شؤون القوى والبلدان الأصغر حجماً، ولكن هل جعلت هذه التجارب الأميركيين أكثر حكمة في تحديد أسباب تصرف هذه القوى والبلدان الأصغر حجماً (والكبيرة أيضاً) بطريقة معينة أو أكثر مهارة في توقع خطواتها وردود فعلها؟لا أظن ذلك.لا يتمتع الأميركيون بالذكاء والجرأة الكافيين، فلم يسبق أن عاشوا على حافة الهاوية، أو قلقوا حيال بقائهم السياسي أو الفعلي، كذلك لم يختبروا مطلقاً بطش قوة عظمى أخرى وظلمها. لا تسيئوا فهمي: هذا أمر جيد وفريد، فلا تنعم معظم الأمم بوضع مميز مماثل، لكن هذا التميّز جعل الأميركيين أيضاً أقل قدرة على فهم سلوك الآخرين الذين لا يتمتعون بحظوة مماثلة. نتيجة لذلك، يخفق الناس في الولايات المتحدة في فهم مخاوف الآخرين أو حتى يقللون من شأنها، معتبرين أن قلقهم هذا يتنافى بوضوح مع عالمنا المعاصر.علاوة على ذلك، لا يكترث الأميركيون، على ما يبدو، بمفاهيم القرن التاسع عشر أو حتى العشرين، بما فيها الفخر القومي، والشرف، والكرامة، وغيرها، خصوصاً إن كانت ترتبط بدول أخرى. لا شك أن الأميركيين يتحمسون كثيراً للألعاب الأولمبية، إلا أنهم لا يشعرون، على ما يظهر، بالغضب أو بالتعرض للإهانة أو الذل، عندما تتجاهل أمم يوازي حجمها ربع مساحة الولايات المتحدة وتعادل قوتها جزءاً لا يُذكر من قوتها التحذيرات الأميركي، تتلاعب بواشنطن بكل سهولة، أو ترفض بعناد من دون أن تواجه العواقب. فلا نرى اليوم الولايات المتحدة متحمسة لمواجهة الروس في سيفاستوبول، فكم بالأخرى خاركيف؟يحتاج الأميركيون إلى تطور بالغ الخطورة، مثل اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، ليتحركوا؛ لذلك عندما يتصرف بوتين، والجنرالات المصريون، وملالي إيران بطرق تتعارض مع عالم الأميركيين المنظَّم بدقة، أو حين يتكلمون ضد الولايات المتحدة دفاعاً عن كرامتهم وفخرهم القوميين أو مصالحهم الشخصية أو الوطنية، يعتبر الأميركيون ذلك مزيفاً، ومصطنعاً سياسياً، ومنفصلاً عن الواقع، أو بعيداً كل البعد عما يمكن اعتباره مصلحة مشروعة.قد لا تملك الولايات المتحدة الكثير من المصالح الحيوية، إلا أن ذلك لا يعني أن الدول الأخرى لا تملك أي مصالح هي بدورها.تشمل المصالح الحيوية كل ما تبدو الأمة مستعدةً لتستثمر فيه وقتها، ومالها، ومكانتها، فضلاً عن المخاطرة بحياة مواطنيها ومواطني دول أخرى باسم الحماية. تقوم مصالح الولايات المتحدة الحيوية اليوم على مفاهيم الدفاع عن الوطن، فمع أن الرئيس الأميركي الحالي أعلن نهاية الحرب على الإرهاب، إلا أنه ظلّ عنيداً في مواصلتها.ولكن ينسى الأميركيون دوماً أن حماية الوطن قد تعني بالنسبة إلى قوة صغيرة الإقدام على أعمال استفزازية: يُعتبر الهجوم أحياناً أفضل دفاع، حسبما يُقال؛ لذلك كان من الطبيعي على الأرجح أن تخفق الولايات المتحدة في توقع استيلاء بوتين على القرم: فلا يستطيع الأميركيون تخيل قيامهم بأمر مماثل، فلمَ تخاطر روسيا بانتهاك سيادة أمة أخرى؟ ألأنها قلقة فحسب بشأن توجهات أوكرانيا الغربية؟ ولمَ يجازف سياسي عملي مثل بوتين بالترتيبات الجيو-السياسية التي أنشئت بجهد وعناء منذ عام 1991؟ لمَ؟لا يفهم الأميركيون، على ما يبدو، السبب لأنهم لا يستطيعون وضع أنفسهم مكان الآخرين ورؤية ما تعتبره سائر دول العالم حيوياً. صحيح أننا نعيش في القرن الحادي والعشرين، إلا أن ذلك لا يعني أن الجميع يرون العالم من المنظار ذاته.من الأسباب التي تجعل الولايات المتحدة تسيء الحكم على القوى الأصغر حجماً افتراضها أن كل الدول ترى العالم من المنظار ذاته، أو على الأقل مستعدةً للتأقلم مع الطريقة التي تراه الولايات المتحدة من خلالها. يعود ذلك إلى وهم خطير يعتبر أن العالم اليوم بات عالماً أكثر حداثة وعولمةً، يتمتع بتكامل مميز، ولا تتصرف فيه الأمم بطريقة تقوض مصالحها الاقتصادية. أوَلا ينتفع الجميع في النهاية من نجاح الآخرين؟ذكر وزير الخارجية الأميركي جون كيري، متحدثاً عن دخول قوات بوتين أوكرانيا: "يليق هذا التصرف بالقرن التاسع عشر لا الحادي والعشرين". ربما، ولكن إذا تأملنا في هذه المسألة من منظار مختلف، نلاحظ أن بوتين (مع بشار الأسد، وكيم يونغ أون، وبعض الملالي الإيرانيين، وغيرهم) قد يكون قائداً في القرن الحادي والعشرين يتبع تكتيكات القرن التاسع عشر لأنها لا تزال فاعلة. ففي رأي بوتين، لا تزال الجغرافيا والقوة (أي كيفية تفادي الوقوع ضحية الأولى والحفاظ على الثانية) مهمتين، ولا شك أن هذه الأهمية تتطلب خطوات لا تتلاءم مع المعايير الأميركية.ما زال التاريخ مهماًلا شك أن الفكرة السائدة عن ألا شيء في الولايات المتحدة يدوم لأكثر من 15 دقيقة مبالغ فيها، ولكن من المؤكد أن الأميركيين لا يكترثون كثيراً بالتاريخ، وعندما يولونه بعض الأهمية، يستخدمونه على الأرجح للدفاع عن السياسة الخارجية لأحد الحزبين أو لطرح الخلاصات الخاطئة.يشكّل التاريخ بالنسبة إلى قوة عظمى ترغب في التعلّم تمريناً مفيداً في التواضع والحذر (قصة تحذيرية بشأن تفادي إشراك القوة المطلقة والمعارف المطلقة، أي الاعتقاد أن الشخص يستطيع فعل أي شيء ويعرف كل شيء). ولكن بالنسبة إلى قوة أصغر حجماً، قد يشكّل التاريخ شركاً يولّد واقعاً راهناً يؤدي إلى خطوات ترتكز على مآسي الماضي ونقاط ضعفه وانتصاراته وإخفاقاته وتسير وفقها. يتوقع الأميركيون أن يتخطى الآخرون الماضي، في المقابل، يعتبر الجزء الأكبر من العالم أن عبارة فولكنر الشهيرة في Requiem for a Nun لا تزال قائمة: "لا يموت الماضي مطلقاً، ولا يصبح حتى ماضياً".يعيش الملالي منذ عقود في ظل انقلاب وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية عام 1953، كذلك تعتمد قوة بوتين على انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، حتى إنه يتمثل بشخصيات تعود إلى عهد بطرس الأكبر، أما الأسد، فهو علوي ترتكز نظرته إلى العالم على التجربة التاريخية لأقلية في الحكم وخارجه، ومع أن نظرة رؤساء الوزراء الإسرائيليين إلى الواقع لا تستند كلها إلى المحرقة النازية، فإن نظرة بنيامين نتنياهو تقوم عليها بالتأكيد... باختصار، لتاريخ القوى الأصغر حجماً ظل طويل.لا يملك كل القادة التفكير ذاتهيُضطر الرؤساء ووزراء الخارجية الأميركيون دوماً إلى التعاطي مع نظرائهم كما لو أنهم ينتمون جميعاً إلى نادٍ محترم يتبع قواعد محدَّدة وتساهم فيه الإشارات والإيماءات في حل المسائل العالقة. على سبيل المثال، ظل القادة الأميركيون مفتونين بالرئيس السوري الراحل حافظ الأسد طوال سنوات لأنهم كانوا مقتنعين أنهم يستطيعون بطريقة ما كسبه كشريك. حتى ابنه بشار نجح خلال فترة وجيزة من عهد إدارة بوش الثالثة والأربعين في الظهور بمظهر الرجل العصري الذي رأى أن مستقبل سورية يقوم على الإصلاح، وعلى نحو مماثل، خرج الرئيس بيل كلينتون من قمته الإسرائيلية-الفلسطينية الناجحة عام 1998 وهو واثق من أنه يستطيع إقناع ياسر عرفات بعقد صفقة في كامب ديفيد، كذلك رأى أوباما وكيري كلاهما في بوتين رجلاً يستطيعان العمل معه في الشأنين الإيراني والسوري.يميل الأميركيون إلى الاعتماد بإفراط على مهاراتهم في الإقناع خلال تعاملهم مع القادة العنيدين في مناطق بالغة الصعوبة من العالم، فضلاً عن أنهم يقللون أحياناً من قدرة شركائهم على الرفض. غير أن الواقع يُظهر أن القواسم المشتركة التي تجمع الرئيسَين بوش، كلينتون، وباراك أوباما بالرئيسَين الأسد، وعرفات، أو بوتين لا تفوق ما يملكونه من قواسم مشتركة مع شخصية ميكي ماوس. يبدو أن الأميركيين ينخدعون بواقع أن هؤلاء القادة يرتدون البزات وربطات العنق (ويقبلون عدداً من الإسرائيليين، كما في حالة عرفات)، فيظنون أن من الممكن التوصل معهم إلى صفقات طويلة الأمد، ولا شك أننا نستطيع أحياناً تحقيق مكاسب قصيرة الأمد، ونتعامل مع بعض القادة الاستثنائيين واللحظات المميزة. لكن هذه تكون نادرة ومأساوية أحياناً: فقد دفع أنور السادات وإسحق رابين حياتهما ثمناً للسلام، في حين اكتفى الرؤساء الأميركيون بالتحدث في مذكراتهم عن أنهم أوشكوا أن يحققوا السلام.خلاصة القول، يعتقد الأميركيون أنهم يفهمون العالم، لكن انفصالهم عنه، بمثاليتهم، وسذاجتهم، وعجرفتهم، وأسلوبهم العملي المبالغ فيه القائم على هذا الانفصال عن العالم تشير إلى واقع مختلف تماماً؛ لذلك إذا أرادت الولايات المتحدة التأثير في العالم بطريقة فاعلة ومختلفة عما نراه اليوم، فمن الضروري أن يتبدل الوضع.* آرون ديفيد ميلر | Aaron David Miller