«مع محمد عبد الوهاب» لإلياس سحاب... مقالات ذاكرة جيل العملاقة
«مع محمد عبد الوهاب}، عنوان الكتاب الجديد للكاتب والناقد اللبناني الياس سحاب، صدر حديثاً عن {دار نلسن}، وفيه يستعرض المؤلف مجمل اللقاءات التي جمعته مع الموسيقار المصري منذ ستينيات القرن الماضي.
يجمع الناقد الموسيقي اللبناني الياس سحاب في كتاب «مع محمد عبد الوهاب» 15 مقالاً نشرت في مجلة «دبي الثقافية» تتحدث عن علاقته بعبد الوهاب، هو آخر ما أصدره في مجال الكتابة في الموسيقى التي بدأها عام 1980، في إطار التركيز على إصدار مؤلفات عن الموسيقى والغناء، لا سيما أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب. يتطرّق الياس سحاب بأسلوب حكائي لا يخلو من السطحية والاختصار وأحياناً حب الذات إلى تلك المرحلة التي يرى فيها «القلق الفني لعبد الوهاب في عقد الخمسينيات، ويربط بينها وبين «تحولين مهمين في حياته الشخصية والفنية: طلاقه من زوجته السابقة وأمّ أولاده إقبال نصار، واقترانه بنهلة القدسي. واعتزاله الغناء رسمياً مع أوركسترا، في مطلع عقد الستينيات». بحسب الباحث، كان لهذين الحدثين المهمين «أبلغ الأثر في ذلك التوتر الفني الذي أصاب عبد الوهاب للمرة الأولى والأخيرة في حياته، بظاهرة الشحّ الفني، وظاهرة تذبذب المستوى، بعدما كان ملتزماً طوال حياته المستوى الفني الرفيع».التقى الياس سحاب بعبد الوهاب شخصياً للمرة الأولى في عام 1958، وتعاقبت اللقاءات بعد ذلك بين بيروت والقاهرة. يقول المؤلف: {جاء الاحتكاك الأول بيني وبين اسم عبد الوهاب وفنه من أكداس الأسطوانات العربية القديمة والحديثة التي كان يحرص والدي على اقتنائها منذ ذلك الوقت المبكر، والتي تدار على آلة فونوغراف جميلة الصوت. ومع أن أكداس هذه الاسطوانات كانت تتضمن أعمالاً لسيد درويش والجيل الذي سبقه (مثل المنيلاوي وعبد الحي حلمي وسلامة حجازي وسواهم) والجيل الذي تلاه (مثل عبد الوهاب وأم كلثوم)، فإن خياراتي المفضلة كما يروي لي والدي عن أحداث تلك السنوات الأولى من عمري المفضلة بين إجادة الكلام وإجادة القراءة ثم الكتابة، التي كنت ألح عليها بشكل دائم، هي أغاني عبد الوهاب، التي كنت أكرر طلب الاستماع إليها وألح على ذلك}.
مسلسل ذكرياتيبدأ الكاتب مسلسل الذكريات مع قصيدة {لا تكذبي} التي ألّفها كامل الشناوي، وغنّتها نجاة الصغيرة بتوزيع علي اسماعيل في فيلم {الشموع السوداء} عام 1962. بعدها غنّى عبد الحليم حافظ هذه القصيدة على طريقته الخاصة، ثم سجّلها عبد الوهاب بصوته على العود. يقول الكاتب في حديثه عن هذا العمل: {كنت صريحاً منذ البداية في التعبير عن تفضيلي لتسجيل نجاة الصغيرة، رغم الشهرة المدوية لعبد الحليم حافظ في تلك الأيام، لأني اعتبرت أداءها أقرب إلى المزاج الوهّابي الذي طبع اللحن من بدايته إلى نهايته، وهي الروح التي خرج عليها تماماً أداء عبد الحليم حافظ، المتوتر أصلاً، وغير المرتاح. ثم حدث أن نزل إلى الأسواق تسجيل ثالث للقصيدة بصوت عبد الوهاب بمرافقة عوده المنفرد، فمسّني عند سماع هذا التسجيل قبس من السحر، كعادتي أمام أيّ عمل متميز لعبد الوهاب، وقلت في نفسي: هذا هو لحن {لا تكذبي}، مؤدى كأجمل وأرقى ما يكون الأداء. ولم أكتف بهذه المشاعر، بل وجدتني أحمل القلم وأكتب مقالاً شديد الصراحة في مقارنة مكشوفة بين التسجيلات الثلاثة. وأعترف أنني كنت وأنا دون الثلاثين من عمري، أعبّر عن آرائي الفنية والسياسية بلا أي قفازات دبلوماسية}. عبد الوهاب وأم كلثومعن العلاقة بين عبد الوهاب وبين أم كلثوم التي يركز عليها الكاتب كثيراً ويفنِّدها بدقة منذ لحن الموسيقار الأول لكوكب الشرق في أغنية {أنت عمري} عام 1964 ثم تباعا {على باب مصر} و«أنت الحب} و}أغداً ألقاك} و«هذه ليلتي} و«أصبح عندي الآن بندقية}، و«فكروني} و«دارت الأيام} وانتهاء بـ«ليلة حب} عام 1972، قبل أن تعتزل الغناء بأغنية السنباطي {القلب يعشق} عام 1972.يقول سحاب إن {عبد الوهاب كان محقاً، لأنه في ألحانه كافة لأم كلثوم (ربما ما عدا لحن {طريق واحد}) كان يسعى إلى لحن يكون حلاً وسطاً بين أسلوبه الغنائي والأسلوب الغنائي لسيدة الغناء العربي. وكان يفتخر بذلك ويعتز، لكن غرامه الفني الخالص، برأيي، بقي أشد ميلاً إلى الألحان التي يعطيها لتلامذته في الغناء (عبد الحليم ونجاة وفايزة أحمد ووردة وفيروز) حيث كان يتعامل مع الأسلوب الوهابي في التلحين والغناء تعاملاً حراً طليقاً لا يتقيد فيه إلا بمزاجه الوهابي الخالص الذي كان تلامذته في الغناء يفخرون بالتسابق على التشرب منه}. ثمة جوانب كان بالإمكان إبرازها بطريقة سوسيولوجية وهي الصراع بين أم كلثوم وبين عبد الوهاب على مدى 40 عاماً والأسباب وراء هذا الصراع والعقلية المختلفة بين الفنانة الكبيرة الآتية من الريف وبين الموسيقار ذي النفحة الارستقراطية.وخصّ عبدالوهاب نجاة الصغيرة بألحان لقصائد حديثة وضع فيها تجديداته الموسيقية، وقد لاقت ألحانه لقصائد نزار قباني بصوت نجاة نجاحاً جماهيرياً، مثل {أيظن}، {ماذا أقول له}، {إمتى حتعرف}، {أسألك الرحيل}. وسبق ذلك الطرب الأصيل في: {القريب منك بعيد، و«إلا انت}، و}يا مرسال الهوى}. في المقالات الأخيرة من الكتاب، يستعيد الكاتب الألحان المطولة التي وضعها عبد الوهاب في السبعينيات لكل من عبد الحليم ووردة وفايزة ونجاة، وتحمل هذه الاستعادة باقة أخرى من الأخبار غير المتداولة. يستعرض الكاتب آراء عبد الوهاب وعلاقاته الخاصة بأصوات كبار المقرئين: علي محمود، درويش الحريري من الجيل الأقدم، ثم محمد رفعت ومصطفى اسماعيل من جيله، وأخيراً محمد عمران الذي {اكتشفه} عبد الوهاب في عزاء عبد الحليم حافظ عام 1977، وبات صوته المفضل حتى رحيل الموسيقار في مايو 1991.يختم سحاب كتابه بالحديث عن آخر ألحان عبد الوهاب، وهو «الدعاء الأخير» الذي نعرف قسماً منه في تسجيل تلفزيوني عنوانه «لبيك اللهم لبيك»، وقسماً آخر سجلته نجاة الصغيرة بتوزيع يحيى الموجي. ولا شك في أن كتاب سحاب يصبّ في خانة تمجيد {الموسيقار}، فقد كان يمكن للكتاب أن يكون بحبكة أفضل وخارج كلام المقالات وبأسلوب يظهر شخصية الموسيقار بطريقة نقدية خارج إطار الاندهاش به أو خارج نرجسية ومزاجية المؤلف في الحديث عن معرفته بالموسيقار وحنجرات الفنانات والفنانين، ومع ذلك يبقى في الكتاب كثير من الجوانب الإيجابية التي تضيء على عالم الموسيقى العربية.