عن «الملحدين العرب» وتهمة الطائفية
ثمة وجوه ثقافية وأدبية معاصرة في العالم العربي، عرفت بالعلمنة والتنظير للإلحاد والفكر المادي، لكنها، في الوقت نفسه، وفي مرحلة من المراحل، اتهمت بالطائفية أو العداء لطائفة من الطوائف، وتلك اشكالية فيها التباس وغموض، وتحمل الكثير من تأويلات المعاني، وتفوح روائحها مع بروز أحداث مفصلية...
أسماء كثيرة وكبيرة في هذا المجال، لنتذكر الشاعر والكاتب العراقي معروف الرصافي الذي كان أقرب إلى العلمانيين، ومتعلقاً بأذيال المجد العثماني.فوق ذلك كان ارتيابياً، إيمانه كـ{الإلحاد البارد}، كما يقول عنه الباحث في الأديان رشيد الخيون، كان مثل ملهمه في فلسفة الوجود والحياة الشاعر أبو العلاء المعري. كانت حياة الرصافي قائمة على التناقض، ففي الليل يعكف على الشراب والميسر، وفي النهار هو ذلك الإنسان المتزن والشخصية المهابة التي تمارس دورها في البرلمان العراقي.
وبسبب مواقف الرصافي الحادة من بعض القضايا في المسألة الشيعية يسأل الكاتب العراقي سلام عبود: {هل كان الرصافي طائفياً؟} ويبين الكثير من القضايا الملتبسة والسقطات في علاقة الرصافي بالدين والطوائف، لكن رشيد الخيون يجد أن مَنْ يبحث في صلات الرصافي مع أعيان الشيعة وبغضه للعهد الملكي السُنّي بالعراق، سيجده بعيداً عن الطائفية بمفهومها الرائج. أدونيسلا شك في أن {إلحاد} الرصافي وإيمانه كانا جزءاً من شخصيته وتناقضاته، ويفتح الجدل حول علاقة المثقفين بالطوائف والدين، لنتذكر المثقف العراقي هادي العلوي الذي نشأ على الثقافة الدينية ولاحقاَ صار ماركسياً مادياً، لكن طيف الفكر الديني بقي طاغياً على ماركسيته، الأمر نفسه ينطبق على المفكر اللبناني حسين مروة، ابن الأسرة الدينية الذي سافر إلى العراق لتلقي العلوم الفقهية في حوزات النجف، وهناك تحول إلى الفكر الماركسي ورغم ماديته بقي في كتاباته النظرية يمزج بين {شيعيته وشيوعيته}، سنجد الكثير من أمثال العلوي ومروة والرصافي في العالم العربي.الشاعر أدونيس (على أحمد سعيد) بدأ مشواره الثقافي بالانتماء إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي ومدح أنطون سعادة بقصيدة {قالت الأرض}. عرف بالحداثة والعلمنة ونقد الدين والقطيعة مع التراث، ومنذ قيام الثورة الخمينية الإيرانية (1979) وجهت إليه اتهامات شتى، لأنه كتب قصيدة {تحية لثورة إيران} نشرت في صحيفة {السفير}، ومع أنه كتب لاحقاً ضد {الفقيه العسكري} (الإيراني)، لكن قصيدته عن الثورة بقيت عالقة في أذهان خصومه للتشهير به في كل مناسبة.ومع اندلاع الأحداث في سورية (2011) وبسبب مواقف أدونيس، واعتبار الأسد رئيساً منتخباً وما يحصل في سورية مجرد {تمرد} وليس {ثورة} لأنها انطلقت من المسجد، بدأت سجالاته {البيزنطية} مع الكتاب السوريين والعرب، استعاد المفكر صادق جلال العظم الكثير من نصوص أدونيس التي نشرها في مجلة {مواقف} المحتجبة سنة 1979 التي تمجد الثورة الايرانية و{سياسة الإمامة}، وسأل العظم في هذا الإطار: هل لهذا الفهم الأدونيسي لمعنى الثورة الإسلامية في إيران أي حظ من حداثة أدونيس أو علمانيته أو تنويريته أو متحوّله أو ثوريته أو إبداعيته؟ أم أنه استرجاع حرفي تقريباً لمنـطق الفقه الشيعي القروسطي بمصطلحاته وغيبياته؟شغل أدونيس الرأي العام بمواقفه، فوصفه أحدهم بـ{الملحد الباطني}، وكتبت الروائية سعدية مفرح تغريدة تقول: {أدونيس ... ثوري في القاهرة، لا ثوري في دمشق، شاعر مع الحرية في باريس، شاعر مع الطاغية في دمشق، علماني في العالم، علوي في دمشق}... كم بدا سهلا توجيه الاتهامات لأدونيس المتشعب الصور والانتماءات والثقافات والأفكار. صادق العظمصادق جلال العظم، أيضاً، متهم بالارتداد عن الفكر العلماني بعد الأحداث في سورية، فهو المادي والماركسي، الشهير بمقالته {براءة إبليس} وكتابه {نقد الفكر الديني} الذي حوكم بسببه وطرد من الجامعة الأميركية في بيروت، وهو العربي الأبرز الذي دافع في كتابه {ذهنية التحريم} عن الروائي الهندي سلمان رشدي بعد فتوى الخميني بهدر دمه بسبب رواية {آيات شيطانية}، وهو الكاتب الأشهر في المزايدات اليسارية ونقد المثقفين العرب. منذ بدء الأحداث في سورية أثار الكثير من السجال، وتلقى الاتهامات بسبب موقفه من النظام السوري ولمجرد أنه تحدث عن ثورة {الأكثرية السنيّة} و{الوعي السني الجماعي في سورية}، واعتبر أن الحل في سورية يكمن في سقوط {العلوية السياسية}، كما سقطت المارونية السياسية في لبنان. كل هذه المواقف الخطابية والتنظيرية والتحليلية، أشعلت السجالات على مواقع الإنترنت ضد العظم الذي كان اتهم أدونيس بولائه للثورة الخمينية، ونعت بعض الكتاب العظم بـ{المثقف المهزوم} والمنظر الطائفي للثورة، وعنونت إحدى الصحف {العظم يحسم أمره ينتقل الى التنظير العلني للسنة}، لأنه يعتقد {أن الإسلام الشعبي التلقائي والإسلام السياسي البيزنسي قادران على استيعاب تيارات الإسلام السياسي الأكثر تعنتاً وأصولية، والمتحدرة كلها من إسلام التوتر العالي الذي يطبع مرحلة الثورة بطابعه}.أنسي الحاجالتوجس الطائفي وصعود مارد الهويات والانقسامات في المشرق العربي، جعلت شاعراً مثل انسي الحاج يكتب في سنواته الأخيرة {هل أنا مسيحي؟ ويعدد أسباب مسيحيته بطريقة لم يعتدها الكثير من قرائه، قائلاً {أنا مسيحي، كما أقول أنا لبناني، وكما أقول أنا عربي، وكما أقول أنا شخصٌ فرد لا يعرفني غير قلمي.أنا مسيحي لأنّي أقليّة، ولأنّي أتبنّى وأحتضن وأحبّ كلّ الضعفاء (...)}. مسيحية أنسي الحاج فيها الكثير من التوتر وتشبه شعره، فهو الذي كان يصنف نفسه بـ{الملعون} و{المتمرد} ويتبنى أندريه بروتون السوريالي (الإلحادي)، وفي الوقت نفسه يصنف شعره بأنه شعر ديني، خصوصاً في الجانب الملحد منه! ووصلت الأمور بأنسي الحاج، الشاعر الكبير، الى التمييز الطائفي بين أم كلثوم {المسلمة} وفيروز {المسيحية}!!مسيحية أنسي الحاج هي أحد اقنعة الثقافة اللبنانية، اذ غالباً ما ينسب المثقف إلى طائفته حتى لو كان ملحداً، هذه القضية تناولها الباحث وجيه كوثراني في مقدمة كتابه {بين فقه الإصلاح الشيعي وولاية الفقيه/ الدولة والمواطن} (منشورات {دار النهار}) إذ قال: {لقد شاع في الآونة الأخيرة {مصطلح} بدأنا نقرأ ونسمع مفرداته في الخطاب الإعلامي المقروء والمسموع والمرئي، وهو مصطلح {المثقف الشيعي}.نلاحظ هنا أنها ليست المرة الاولى في تاريخ لبنان المعاصر التي تستخدم فيها صفة الدين والمذهب منسوبة الى مثقف ومثقفين لبنانيين. فعلى مدار الحرب الأهلية في لبنان، لا سيما في سنواتها الأولى، شاع، أيضا مصطلح: {المثقفون المسيحيون} و{المسيحيون الديمقراطيون} و{المسيحيون العلمانيون} و{المسيحي الوطني}. كان ذلك للتعبير عن سياق تاريخي متشابه، هو سياق تمايز فئة من المثقفين {بالسياسة} عن سياسة الأكثرية السائدة في الطائفة التي انتسبوا اليها}...لا عجب أن يقع أقطاب الإلحاد في فخ {الولاء} الطائفي والديني، فماركس نفسه صاحب مقولة {الدين أفيون الشعوب} ومنظر الشيوعية والفكر المادي، كانت علاقته بالدين، أيضاً، ملتبسة، ولم يكن ملحداً، بشكل مطلق، بحسب ما يبين الماركسي الأسترالي أندي بلوندن في دراسته {ماركس لم يكن ملحداً}، ترجمها ياسين الحاج صالح، والراجح أن بعض الاتهامات إلى المفكرين الملحدين فيها جانب من الحقيقة، وفيها روائح تكفيرية لا تنفصل عن التكفيريات السائدة.