نأتي للحياة كائنات مغسولة بماء طاهر، تملأ قلوبنا نورانية آسرة، وتسكن أرواحنا براءة ساحرة، حينها نُسمّى أطفالاً، وتُدعى تلك الهالة التي تستوطننا بالطفولة.

Ad

تمر الأيام يوماً بعد يوم، والسنون سنة بعد أخرى، نكبر، يمسك الزمن إزميله ويمارس هوايته في تشكيل ونحت ملامح وجوهنا، في الوقت الذي يقبض معوله بكلتا يديه ليعيد بناء ملامح قلوبنا وما يستلزم ذلك البناء من عمليات هدم قد تكون قاسية غالباً.

تختلف صور وجوهنا وقلوبنا مع الوقت، لا نصبح كما جئنا إلى الحياة أول مرّة، يكتشف المرء منا أنه أضاع فجأة طفلاً كان يمسك بيده، يتذكر أن ذلك الطفل هو من كان يقوده رغم طفولته، يجرّه خلفه في متاهات الدروب، ويتذكر أن ذلك الطفل كانت تسكنه روح مغامرة، لم يكن يتحصّن بكثير من الحذر، يحب أن يختبر الحياة بحثاً عن مساحة دهشة خضراء، أو عن متعة بكر، أو غصن يانعٍ من الشغب الحلو، لا يمانع في تذوق ثمر الوقت المرّ أحياناً.

نتذكّر أننا كنا نسير خلف ذلك الطفل مبهورين ومأخوذين بما يفعل، لا نعرف سرّ رضوخنا التام له، ونجهل تماما لما نحن نسير خلفه أشبه بالمنومين مغناطيسياَ، كأنما قرأ علينا بعض تعاويذه السحرية حتى أصبحنا مسلوبي الإرادة أمامه.

نستعيد أحياناً في ذاكراتنا بعض شغبه، فتلتحف وجوهنا ابتسامة محبة، ويسيل ماء شوق دافئ في أوردة قلوبنا لذلك الطفل الذي اكتشفنا أننا أضعناه وربما إلى الأبد!

سرقنا الزمن في غفلة منا من ذاك الطفل، أو ربما سرقه منا. لم تعد ملامح وجوهنا تشبه تقاطيع وجهه، ولا قلوبنا تشبه قلبه، وأنفاسنا التي أنهكها غبار لهاثنا في دروب الحياة حتى أكلها الربو، لا تشبه نقاء أنفاسه المشبّعة بماء الورد، شيخوخة شغفنا لا تشبه حيوية شغفه،

«عقل» مشاعرنا الجافة لا يشبه «جِنان» مشاعره الغنّاء. نأنّ بملء أسفنا: كم نفتقدك يا ذاك الطفل!

قليل منّا من بقيت عينه مفتوحة على ذلك الطفل كل الوقت، وظلّ ممسكا به بكلتا يديه حتى في المنام مخافة أن يفقده في غفلة كما فعل الكثير، قليل منّا من أحسن معاملة ذاك الطفل ولم يفقده أو يجبره على الكِبَر، أما الأذكياء منا فهم من استطاعوا أن يستعيدوه بعد أن فقدوه تماما أو ظنوا أنهم كذلك، هؤلاء وجدوا الطريق إليه، اهتدوا إلى سبيله، سلكوا الدرب المؤدي إليه، علما بأنه الدرب الوحيد. الحب هو السبيل الوحيد لاستعادة طفولتنا، هو الطريق الوحيد المؤدي إلى ذلك الطفل الذي كان يسكننا وخطفته منا يد الأيام.

الحب يأخذنا من أيدينا ويسلّمنا ثانية ليد ذلك الطفل ليستكمل ما بدأه معنا عندما كنا بعمره،

عندما كان يأخذنا إلى حيث لا ندري، عندما كنا نسير خلفه مندهشين مبهورين مسحورين بكل ما نرى في الحياة..وفينا!

الحب لا يعيد ملامح وجوهنا الطفلة، ولكنه يعيد ملامح طفولة قلوبنا! الحب يعيدنا أصدقاء للعصافير والشجر والطائرات الورقية والقوارب الورقية وقصص العشق المسكونة في ذاكرة الورق.

الحب فقط هو الدرب الوحيد المؤدي إلى طفولتنا، أي حينما كنا أقرب ما نكون إلى قلب الله وذاكرته!