يبدو أن شيئاً ما قد تغير- أو لعله بدا للعيان مؤخراً فقط- في الولايات المتحدة خلال الشهر الماضي، كانت أعداد الأميركيين الذين شاهدوا بطولة كأس العالم لكرة القدم باللغتين الإنكليزية والإسبانية أكثر بملايين من أي بطولة سابقة، والآن، وقد انتهت بطولة كأس العالم، يزعم كثيرون كالمعتاد أن الأميركيين لا ينتبهون إلى كرة القدم إلا كل أربع سنوات، وفقط إذا كانت الولايات المتحدة مشاركة في البطولة، ولكن هذه المرة اختلف الأمر: فقد واصل الأميركيون مشاهدة المباريات حتى بعد خروج فريق الولايات المتحدة من البطولة.

Ad

فبعد ظهيرة أحد أيام وسط الأسبوع في منتصف الصيف، جلس ما يقرب من 15 مليون أميركي لمشاهدة المباراة بين فريقي البرازيل وألمانيا في دور قبل النهائي، وهذا أكثر من عدد المشاهدين المعتاد لمباراة ليلة الاثنين على محطة (إي إس بي إن)، وهو البرنامج الأكثر جذباً للمشاهدين من محبي رياضة كرة القدم الأميركية على الإطلاق.

في منظمتي، مؤسسة أميركا الجديدة، وجد كل شاب تقريباً وسيلة لمشاهدة مباريات الولايات المتحدة في الأدوار الأولى من البطولة، وقد أوضحت لي زميلتي في السكن أن الجميع في مكتبها في وزارة التعليم الأميركية استخدموا ذريعة حفل عيد الميلاد لمشاهدة المباراة بين الولايات المتحدة وألمانيا، وبعد ظهر يوم الثلاثاء عندما لعبت الولايات المتحدة ضد بلجيكا في جولة خروج المهزوم، كانت كل الحانات في أسبن بولاية كولورادو مكتظة بالرواد.

بطبيعة الحال، تُعَد أسبن واحدة من أكثر المجتمعات ثراءً في البلاد، ولعلها لا تمثل الولايات المتحدة ككل، ولكن التلفزيون الأميركي أظهر حشداً هائلاً من المشجعين في كانساس سيتي عقب المباراة بين الولايات المتحدة وبلجيكا أمام شاشة ضخمة في الهواء الطلق، ولم يكن الحشد معادلاً لذلك الذي شاهد المباراة النهائية بين إيطاليا وفرنسا عام 2006، عندما خرج أهالي كل بلدة إيطالية صغيرة لمشاهدة المباراة في الساحة الرئيسية للبلدة؛ لكن الأميركيين في مختلف أنحاء البلاد قضوا الشهر بالكامل في التملص من العمل ليذهبوا إلى المقاهي الرياضية.

إن احتضان أميركا لكرة القدم على هذا النحو المتزايد يعكس بعض النواحي المهمة التي تبين لنا كيف "انضمت" الولايات المتحدة إلى العالم، فبادئ ذي بدء، يستمد كل من فريق الولايات المتحدة والمشاهدين الأميركيين هذه القوة المتزايدة من المهاجرين، وأكثرهم من بلدان حيث تمثل هذه الرياضة عشقاً وطنيا.

على سبيل المثال، كل سائقي سيارات الأجرة تقريباً في واشنطن العاصمة من الوافدين الجدد إلى الولايات المتحدة، وعندما يكون سائق سيارة الأجرة التي أستقلها إثيوبي، كما يحدث غالبا، فإننا نستهل الحديث بإبداء الأسف إزاء هزيمة الفريق الوطني من نيجيريا في التصفيات المؤهلة للبطولة، ثم نشيد بفوز الولايات المتحدة على غانا، وفي النهاية نتفق على أن فريق الولايات المتحدة في غضون أربعة أعوام، أو في غضون ثماني سنوات بكل تأكيد، سوف يصبح بين أفضل فرق العالم، وفي كل الحالات تقريبا، يخبرني السائق بأن أولاده يلعبون كرة القدم في الاتحادات المحلية للشباب.

ولا يزود هؤلاء المهاجرون الفرق الأميركية بمواهب كرة القدم المحلية فحسب؛ فهم يشكلون أيضاً جزءاً أساسياً من جماهير كرة القدم الأميركية المتزايدة في مختلف أنحاء العالم، ويشير دان ليفي، كبير الكتاب في الموقع الرياضي الأميركي على الإنترنت، "تقرير المقصورة"، إلى أن أغلب المعلقين يقيسون "كرة القدم الأميركية" وفقاً لعدد الأميركيين الذين يشاهدون اللاعبين الأميركيين في الاتحاد الأميركي وهم يلعبون.

ومن الواضح أنها وسيلة سخيفة للقياس، إذ إن مشجعي كرة المضرب (التنس) الأميركيين يشاهدون مباريات التنس حيثما كانت في مختلف أنحاء العالم، ولا تنخفض أعداد مشاهدي رياضة الغولف من الأميركيين عندما تدار إحدى البطولات في أسكتلندا، مسقط رأس هذه الرياضة، والمزيد من الأميركيين يشاهدون كرة القدم في الاتحادات الأوروبية والمكسيكية، باللغتين الإنكليزية والإسبانية، ثم يشاهدون مباريات البيسبول وهوكي الجليد، وهما تقليدياً من الرياضات "الأربع الكبرى" في الولايات المتحدة (جنباً إلى جنب مع كرة القدم الأميركية وكرة السلة).

إن بطولة كأس العالم لكرة القدم تشكل بالنسبة إلى الولايات المتحدة بصورة خاصة معادِلاً عظيما، تنتمي والدتي إلى أصول بلجيكية، ولو أنها تحمل جنسية الولايات المتحدة منذ أكثر من خمسين عاما؛ وما زال لي خال وخالة وأبناء خال وخالة في بروكسل، وأثناء مباراة الولايات المتحدة وبلجيكا، تدفقت رسائل البريد الإلكتروني عبر شبكة العائلة، حاملة الكثير من المنافسة الودية.

وقد أبدت أمي ولاءً منقسما، لأن بلجيكا هي على أي حال الموقع الذي شهد "الصراع بين ديفيد وجالوت الجبار"، وأدلى أبناؤها الأميركيون الثلاثة بدلوهم في الأمر في نفس الوقت، فأشاروا إلى أن الولايات المتحدة هي الدولة المستضعفة في عالم كرة القدم، فهل يوجد أي مجال آخر حيث قد تعيش الولايات المتحدة تجربة الدولة الصغيرة على الساحة العالمية؟

مثلهم كمثل المشاهدين في مختلف أنحاء العالم، شجع الأميركيون فريقهم ككل، بصرف النظر عن خلافاتهم الداخلية، ففي أحد مقاهي أسبن، حيث كان المقعد الوحيد الشاغر على طاولة رجل مسن ومعه زوج ابنته (اللذين رحبا بي للجلوس معهما)، كنا نهتف ونصيح كلماً اقتربت الولايات المتحدة من تسجيل هدف أو أضاعت ركلة ثابتة، وفي الفواصل الدورية القصيرة استطلعنا آراء بعضنا بالقدر الكافي لكي نكتشف أننا كنا ننتمي بكل تأكيد إلى معسكرات سياسية متعارضة.

ونظراً لحالة الاستقطاب الراهنة التي تعيشها السياسة الأميركية فلا أظن أن رفيقيّ على الطاولة في المقهى كانا ليدفعا طواعية ثمن عدة أكواب من البيرة عن شخص أنفق من عمره عامين يعمل في وزارة الخارجية الأميركية تحت قيادة هيلاري كلينتون، بيد أن كلاً منا هنا لم يكن يهتف لجانبه السياسي، بل لجانبنا الوطني جميعا، فمع تناقل الكرة بين أقدام فريقنا على أرض الملعب تلاشت السياسة.

ويحدث الشيء نفسه في دورات الألعاب الأولمبية أيضاً بطبيعة الحال، ولكن الألعاب الأولمبية تتألف من مجموعة منوعة من الرياضات، وكل منها له جمهور خاص من المحبين، الذين كثيراً ما يهتف كل منهم لمسابقاته المفضلة في نفس الوقت ولكن بشكل منفصل وفي ساحات مختلفة، ونحن نشهد غالباً إنجازات فردية- خفة الحركة الشديدة، والشجاعة، والحركات المنضبطة للاعبي الجمباز- وليس جهداً جماعياً حقيقيا.

إن بطولة كأس العالم لكرة القدم تتيح لكل مشجعي دولة ما إن يجتمعوا في لحظة واحدة على مباراة واحدة بين مجموعتين لابد أن تكون كل منهما أكثر من مجرد مجموع أفرادها، والواقع أن المرء لا يشعر باكتمال المتعة عندما يشاهد مباريات كأس العالم وحده، مع انتهاء المباراة، ووسط الأسف على الخسارة للفريق البلجيكي الجبار ولكن مع اقتناعه بأن فريق الولايات المتحدة لعب مباراة عظيمة، قال صديقي الجديد: "نحن في احتياج إلى المزيد من هذا".

بطبيعة الحال، لا تزال استثنائية الولايات المتحدة على قيد الحياة وفي خير حال، وأظن أننا سوف نظل دوماً نطلق على لعبة العالم مسمى "سوكر" وليس "فوتبول"، لكننا الآن نحبها وهي لعبتنا نحن أيضا.

* آن ماري سلوتر | Anne-Marie Slaughter ، الرئيسة التنفيذية لمؤسسة أميركا الجديدة، ومؤلفة كتاب "الفكرة التي هي أميركا: كيف نصون إيماننا بقيمنا في عالم محفوف بالمخاطر".

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»