لم يتحمل رئيس الوزراء العراقي اهتمام محطة "فرانس ٢٤" بمقتدى الصدر، وحرص مقدم برنامج "إكسكلوزف" على أن يسأل عن زعيم التيار الصدري، فقد رد نوري المالكي بجفاء وعصبية مفاجئة قائلاً: "الصدر لا يفهم أصول السياسة، ولا يفهم الدستور، حاول أن تنتقل إلى سؤال آخر"!

Ad

وحقيقة إن المالكي لم يوفر نقداً لاذعاً لجهة، في المقابلة المتلفزة التي بثت ليل أمس الأول، السبت، فقد هاجم السعودية وتركيا بلهجة خلت من أي دبلوماسية، وقال إن على شركائه الأكراد أن يخضعوا لشروطه، ورفض الحديث عن تسويات سياسية في الأنبار.

وتدرك الصالونات السياسية في بغداد أن الموضوعات التي أثارها المالكي عبر لهجة خالية من الدبلوماسية، هي ذاتها التي عجز أن يخلق "إجماعاً شيعياً" حولها، حيث تمكن الزعيمان الشابان، رجلا الدين مقتدى الصدر وعمار الحكيم (زعيم المجلس الأعلى الإسلامي) من تقديم مقاربات توصف بالمعتدلة في إطارها، ولم يدعما طريقة رئيس الحكومة "الراديكالية" في المسارعة إلى إعلان "الحرب" على خصومه. ففي ذروة القطيعة التي أعلنها المالكي مع تركيا، طوال العامين الماضيين، كان الحكيم يتردد على إسطنبول بسهولة. وخلال ذروة التصعيد الحكومي مع سنّة العراق حرص مقتدى الصدر على إرسال مبعوثين بارزين إلى الموصل والرمادي. وفي أوج الخلافات مع أربيل كان الصدر والحكيم يتواصلان مع رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني ويرفضان "معاقبة الأكراد".

وجزء من "العصبية" التي يتحدث بها رئيس الحكومة العراقية عن الجيل الشاب من "معممي السياسة" لا يمكن عزله عن تمكن هؤلاء من خوض نزال معه نجح في استعراض نهج معتدل ظل يثير إعجاب الأحزاب العلمانية في البلاد، ويشغل الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي طوال العامين الماضيين، مقابل نهج أثار غضب الجميع تقريباً، اعتمده حزب الدعوة الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء، مع أنه حزب ظل منذ السبعينيات، يحاول تكريس صورة "المثقف الديني المعتدل" والمنادي بإصلاح ديني في الحوزات الشيعية الموصوفة بأنها "تقليدية ومتشددة".

ولا يمكن للخبراء تناول هذه "المفارقة" بعد ١١ عاماً من وصول الشيعة إلى الحكم، بمعزل عن دور ما تبقى من "الارستقراطية الشيعية"، حيث يعتقدون أن نوع الولاءات والصراعات، وخاصة في الولاية الثانية لنوري المالكي (منذ ٢٠١٠) أتاح لرجال الدين الشباب أن ينصتوا لنصائح مهمة ويستفيدوا من خبرات عوائل عملت في السياسة منذ بواكير العهد الملكي. فقد تسرع حزب الدعوة (الذي قام بتقريب بعثيين كبار) في خسارة شخصيات بارزة من أرستقراطية العهد الملكي، مثل أحمد الجلبي (نجل رجل الأعمال والوزير المخضرم عبدالهادي الجلبي) وعادل عبد المهدي (نجل عبد المهدي المنتفجي وزير التربية في الأربعينيات) فضلاً عن تكنوقراط ينتمون إلى هذه العوائل، مثل سنان الشبيبي رئيس البنك المركزي العراقي (٢٠٠٣ - ٢٠١١) الذي طرده المالكي وحاول سجنه بتهم اختلاس اعتبرت "مسيسة".

ووجد هؤلاء وحلقات الولاء والمصالح المرتبطة بهم نوعاً من الحماية التقليدية، لدى عوائل دينية عريقة أبرزها أسرتا الصدر والحكيم، كما وجدوا استعداداً لدى الجيل الشاب من معممي هذه الأسر للإنصات إلى نصائح مهمة، تقوم على فكرة أن نجاح الحكم الشيعي في العراق يتطلب براغماتية عالية مع السنة والأكراد، وتصالحاً مع المحيط الإقليمي، على العكس من رئيس الوزراء العراقي المتهم بأنه بالغ كثيراً في الرهان المنفرد على دعم طهران وواشنطن، واستهان بعلاقته مع الآخرين في الداخل والخارج.

الصورة المعقدة للعبة "الاعتدال والتشدد" داخل البيت الشيعي لا تجعل إجابات زعيم حزب الدعوة على أسئلة الصحافة بهذا القدر من الجفاء والاقتضاب فحسب، بل تشجع المراقبين على اعتبار الانتخابات العامة في أبريل المقبل "صراعاً شيعياً - شيعياً" قد يستجيب لرغبة داخلية وإقليمية واضحة في إحداث تغيير للسياسات العراقية، وإعادة كتابة قواعد العمل والتوافقات التي لم يتبق أثر لها في الدورة المنتهية للائتلاف الحكومي الحالي.