الإعلام السوري البديل: المخاطر والفرص

نشر في 08-12-2013 | 00:01
آخر تحديث 08-12-2013 | 00:01
 ياسر عبد العزيز ظل الإعلام السوري مثالاً شديد الوضوح على الأحادية والانغلاق والتوجه الدعائي والانقطاع عن القيم المهنية لأكثر من أربعة عقود، رغم انطوائه على الكثير من الإعلاميين الأكفاء والنابهين.

لم تعط الدولة التي أقامها الرئيس الراحل حافظ الأسد أي فرصة لصدور وسائل إعلام خاصة، وبالتالي فقد قضت على التعددية تماماً، وبسبب تسخير الآلة الإعلامية الرسمية كلها للدعاية للقائد والحزب وخوض حروب النظام الداخلية والخارجية، فقد تم تقليص مساحة التنوع إلى أقصى درجة ممكنة.

لم يكن وضع الإعلام السوري طوال تلك العقود تحت حكم الأسد الأب، ثم الأسد الابن، مرضياً بالطبع، كما لم يحقق الحد الأدنى المطلوب من أي منظومة إعلامية وطنية في النصف الثاني من القرن العشرين، أو مع مطلع الألفية الثالثة.

فماذا عن وضع منظومة الإعلام السوري اليوم؟

لا جدال في أن صناعة الإعلام السوري شهدت في السنوات الثلاث الأخيرة اتساعاً غير مسبوق في تاريخها، فقد صدر عدد كبير من الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية والقنوات الفضائية بشكل لم يكن أكثر المتفائلين يتوقعه.

لذلك، فقد أطلق إعلاميون وباحثون وخبراء على الوسائل الإعلامية الجديدة التي ظهرت بعد اندلاع الحراك الثوري في عام 2011، اسم منظومة "الإعلام البديل".

يريد هؤلاء الإعلاميون والخبراء أن يقولوا إن ما ظهر من وسائل إعلام جديدة تعنى بالشأن السوري، داخل البلاد، أو خارجها، بات يشكل نسقاً جامعاً له سمات مشتركة، وأنه، إضافة إلى ذلك، يطرح بديلاً لإعلام الدولة السورية الأحادي المنغلق.

يحظى هذا الطرح بتوافق، وسيصعب جداً دحضه أو تجاهله؛ لذلك علينا أن نسعى إلى فحصه وتحليله، ومحاولة التعرف إلى نقاط تميزه وضعفه، وإلى أي حد يمكن أن يخدم الإعلام السوري والمصلحة العامة في هذا البلد، وأي فرص يقدمها لسورية، وأي مخاطر يطرحها عليها.

أكتب هذه السطور استناداً إلى تحليل مضمون الكثير من وسائل الإعلام السوري "البديل"، وفي أعقاب قيامي بتدريب عشرات الإعلاميين والناشطين السوريين الذين يعملون في تلك الوسائل، في كل من "غازي عنتاب"، و"ميرسين"، و"إسطنبول" بتركيا، وعمان بالأردن.

وقد وجدت مثلاً أن أفضل عناصر التميز في المنظومة البديلة ما تنطوي عليه من اتساع في حجمها، فهناك عشرات الأسماء التي برزت أخيراً؛ مثل: "عنب بلدي"، و"أوكسجين"، و"حريتنا"، و"سورية بدا حرية"، و"ياسمين سورية"، و"سوريتنا"، و"تغاريد ثورية"، و"بنات البلد"، و"تمدن"، و"طلاب الحرية"، و"طلعنا ع الحرية"، و"المسار الحر"، و"شرارة آذار". ولم يقتصر الأمر على الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية فقط، لكنه امتد أيضاً ليشمل إذاعات وقنوات فضائية؛ مثل: "سورية الشعب"، و"سورية الكرامة"، و"سورية 18 آذار"، و"الشهباء"، وغيرها.

لدينا إذن ميزة كبيرة جلبها هذا الإعلام السوري "البديل"، فقد حول هذا النظام الإعلامي الفقير المحدود إلى صناعة واسعة ضخمة، تشهد صدور أسماء جديدة باطراد.

زاد حجم الاستثمار في الصناعة، ومعه الطلب على دخول كوادر جديدة، وبات المواطن السوري، أو العربي الذي يريد أن يعرف أخبار سورية، أمام طيف ضخم من الوسائل.

طرح "الإعلام البديل" وجهة نظر أخرى عما يجري في سورية، بعد أكثر من أربعة عقود من الاستسلام لوجهة نظر واحدة تقريباً، وتلك ميزة مهمة أيضاً.

لكن، ماذا عن نقاط الضعف في تلك المنظومة الإعلامية الجديدة؟

لعلك لاحظت أن معظم أسماء وسائل الإعلام "البديل" تتخذ سمتاً ثورياً، وأغلبها يصف نفسه بـ "الثورة"، أو "الكرامة"، وبعضها ينطلق من التزام أو إيمان ظاهرين بـ"الحرية".

تتمثل نقطة الضعف الأولى بتلك المنظومة في انتمائها السياسي، فأغلبية تلك الوسائل تنتمي إلى قوى معارضة سورية، أو تعبر عن تيارات معارضة بعينها. يمثل هذا الانتماء السياسي، وما يصحبه من أنماط أداء دعائية غالباً المعادل الموضوعي للخطأ الجوهري الذي وقع فيه الإعلام السوري التابع للنظام.

لا تستهدف تلك الوسائل معظمها تحقيق الربح، لكنها بالطبع تسعى إلى إحداث أثر سياسي، يتعلق برؤيتها لما يجب أن تكون عليه الأوضاع في سورية، وبالتالي فهي لا تقيم وزناً لاعتبارات الصناعة وضمان الجدوى الاستثمارية، طالما أن أهدافها السياسية تتحقق، وهنا يتعمق الأداء الدعائي لها، وتفقد صلتها شيئاً فشيئاً بقيم العمل الإعلامي.

كثير من العاملين في تلك الصناعة الجديدة في سورية وخارجها ليسوا من الإعلاميين. الكثير من هؤلاء ناشطون أو سياسيون أو مقاتلون، وهم دخلوا الإعلام من باب "الثورة"، أو "الجهاد"، أو القتال، وهم يريدون أن يستخدموا تلك الوسائل الممولة تمويلاً جيداً في تحقيق أهدافهم السياسية، وليس في إعلام الناس أو تنويرهم.

أغلبية الأموال التي يتم ضخها في تلك الصناعة غير معلومة المصدر، وهناك دول إقليمية وأجنبية كثيرة تستثمر في هذا المجال. الاستثمار هنا لا يستهدف تحقيق الجدوى، وبالتالي لا يضمن كفاءة المنتج، ولا يُخضع الأداء للتقييم المهني، لكنه يريد الناتج السياسي، وهو أمر يعمق مشكلات تلك المنظومة، ويحرفها أكثر وأكثر.

لقد اتسعت الصناعة من دون شك، بسبب المال السياسي الوفير الذي دخلها، لكنها رغم ذلك تفتقر إلى التنوع؛ لأن معظم المحتوى يتعلق بالسياسة و"الثورة"، كما أنها أيضاً تفتقر إلى "التعدد"؛ فرغم كل هذه الأسماء الجديدة؛ فإن أغلبها يعبر عن موقف سياسي محدد واحد في معظم الأحيان.

لا تقيم هذه الصناعة ورش تدريب كافية، ولا ترسي قيما وآليات، ولا تنشئ أكواداً ومواثيق، ولا تعرف مؤسسات للدقة العامة وحماية حقوق الجمهور، ولا ينهض بموازاتها بحث علمي يوثق مراحلها ويتقصى قضاياها.

فما الذي تطرحه تلك الصناعة من فرص؟

تطرح صناعة "الإعلام البديل" في سورية فرصاً محدودة للغاية إذا ما تمت مقارنتها بما تطرحه من مخاطر. أهم فرصة في هذا الصدد تتعلق بقدرة الكادر الذي تربى في أحضان "الإعلام البديل" على التجمع في تنظيم مهني يُبنى على أسس ديمقراطية، بغرض تنظيم المهنة، وتحديد من هو الصحافي أو الإعلامي، واستيفاء بعض الشروط التي يجب أن تتوافر عند أدائه المهنة.

تطرح تلك الصناعة أيضاً فرصة الاستفادة من هذا العدد الضخم من الوافدين الجدد إلى المهنة، والإمكانات التقنية التي بات يوفرها المال السياسي أحياناً في تعزيز إطار الخدمة الذي لا تزدهر أي صناعة من دونه. فرصة أخرى تطرحها صناعة الإعلام "البديل" في سورية تتعلق بقدرة هذه الصناعة على تعزيز التنوع والتعدد في المنابر والمحتوى الذي تقدمه.

لكن في المقابل هناك مخاطر كبيرة يطرحها الإعلام "البديل" في سورية؛ أهمها أن يتكرس الحس الدعائي، والنفس "الثوري"، والمنحى "الجهادي"، والمقاربة "النضالية" في مجمل الأداء، وبالتالي تتحول المنظومة بكاملها إلى آلة دعاية مجنونة ضخمة.

ثمة خطورة أيضاً في أن تبدأ تلك التعبيرات الإعلامية الجديدة باتخاذ نقاط ارتكاز طائفية في المناطق التي لا يسيطر عليها النظام، أو أن تتحول الصناعة كلها إلى منابر طائفية في حال سقط النظام تماماً.

المال السياسي الوفير الذي يتم ضخه في الصناعة يطرح إشكالات كبيرة، خصوصاً ذلك المال الذي تضخه دول إقليمية لديها رؤية محددة للأوضاع في سورية والمنطقة.

سيكون المال السياسي عاملاً مشجعاً لأنماط رديئة من الإعلام، لا تقيم وزناً لرضا الجمهور، بقدر ما يهمها إرضاء المالك، الذي لا يستهدف الربح، بقدر ما يستهدف تحقيق الأثر السياسي.

تتسع صناعة "الإعلام البديل" في سورية يوماً بعد يوم، وتظهر أسماء جديدة، وتُنفق أموال ضخمة، ويزيد حجم الكادر، لكن ما تطرحه تلك الصناعة من فرص يظل أقل كثيراً مما تطرحه من مخاطر وتحديات.

* كاتب مصري

back to top