أحرص، بين الحين والآخر، على مشاهدة الأفلام الروائية القصيرة ليقين جازم لدي بأنها تمثل «البوصلة» التي يمكن من خلالها تحديد اتجاهات السينما المصرية المستقبلية، ولأنها تكشف أيضاً عن المواهب الشابة، التي يمكن أن تعتمد عليها صناعة السينما وتُكمل مسيرة {الأساتذة}، وربما تضيف إلى ما قدموه، في حال استفاد {جيل الإنترنت} من الإمكانات الهائلة التي تُتاح لهم مقارنة بالظروف السيئة التي كان يعمل جيل الكبار في ظلها!

Ad

 من هذا المنطلق كانت سعادتي كبيرة عندما أتيحت لي الفرصة، في الأيام القليلة الماضية، لمتابعة أفلام طمأنتني على مسار السينما المصرية، في المرحلة المقبلة، مثلما أكدت لي أن هذه الصناعة العريقة التي بدأت بمحاولات فردية عام 1917، «تمرض لكنها لا تموت»؛ فالأفلام، التي سأنتهز الفرصة لتناولها من وقت إلى آخر، تتمتع بثراء كبير، على صعيد لغتها السينمائية ورؤيتها الفكرية، وتتسم بجرأة لا يمكن تجاهلها، بل ينبغي توقعها من جيل طموح اختار «التمرد» نهجاً وطريقاً، وسعى، بكل السبل، إلى التعبير عن نفسه.

 أول هذه الأفلام يحمل اسم {تحية طيبة... وبعد} (إنتاج 2012)، أهداه مخرجه جون إكرام {إلى روح الأديب المصري ابراهيم أصلان}، من قبيل الامتنان لقلمه الذي أبدع كتاباً بعنوان {شيء من هذا القبيل}، احتوى 34 نصاً جمع بين المذكرات والقصة والمقالة، من بينها مقال بعنوان «رسالة إلى الله فعلاً» اعتمد فيه على خطاب من مقتنياته، عثر عليه أثناء عمله في مصلحة البريد عام 1963، ويحكي مأساة شاب يعاني البطالة، بسبب فقدان وظيفته في قريته، وبناء على نصيحة أصدقائه هبط «القاهرة» عله يجد عملاً، ولما أعيته الحيل كتب رسالة إلى «ربنا العزيز الكريم»، يرجوه فيها أن يبعث له شغل، وذيَل الخطاب بعنوانه!

 التقط المخرج الشاب جون إكرام النبرة الجريئة للخطاب، فضلاً عن طرافة الفكرة، وأنجز فيلماً عذباً ومؤثراً، شارك في كتابته مع أمير نسيم، لكنه لم يكتف بعرض الواقعة، حسبما فعل أصلان، إنما أنهى فيلمه بخطاب يصل إلى الشاب العاطل يجعله في حال من الدهشة والفرحة... والصدمة.

الفيلم الذي صوّره إسحق راتب، وصممت ديكوره ميسون ربيع، وصاغ موسيقاه رفيق جمال، يجذبك بإيقاعه (مونتاج مينا فهيم)، ورصانة أداء بطله أحمد كمال في دور ابراهيم، موظف البريد الذي عثر على الخطاب المثير في قسم المهملات، وهو نفسه إبراهيم أصلان، وشجن شخصية محروس (الوجه الجديد محمود رمضان) الذي كان يحمل في الواقعة الأصلية اسم مصطفى؛

الواقعة التي رواها الأديب الكبير في ما لا يتجاوز الثلاث صفحات، تحولت إلى فيلم استغرق عرضه على الشاشة نحو 15 دقيقة، وهو ما تطلب إضافة مزيد من التفاصيل والشخصيات التي لم يكن لها وجود عند أصلان؛ كالمكتب الكئيب الذي يعمل فيه إبراهيم ويترأسه الموظف المتطرف عبد القوي (حسن العدل) الذي يعاني ازدواجية بين تدينه الظاهري وإدمانه التلصص على ساق زميلته فيولا (ليلى نجاتي)، وهي الازدواجية نفسها التي يعانيها المجتمع المصري؛ حيث يُتلى القرآن داخل الغرف المغلقة بينما تترد في الشارع أغنية تقول كلماتها «هاتي بوسة يا بت»، فضلاً عن الروتين اليومي الذي يعيشه إبراهيم في رحلة العذاب اليومية من بيته إلى مقر عمله، والمعاملة السيئة التي يلقاها في الصندوق الحديدي، الذي اصطلح على تسميته «ميكروباص»، وسخر المخرج منه فاختار أن يُرصع لوحته المرورية بثلاثة حروف هي: «غ.ن.م»، في إيحاء إلى المهانة التي يتعرض لها المواطن، وإقرار بالإذلال الذي يعيشه المصريون في كل يوم، وهو المعنى الذي عبر عنه بأغنية تقول كلماتها: «اشكي لمين... ومين يسمعني؟» وفي مقطع آخر: «ليه الدنيا بتلعب بيَ؟ ليه الحظ معاند فيَّ»!

 نقطة أخرى لها أهميتها ودلالتها في فيلم «تحية طيبة... وبعد» تمثلت في اختيار المخرج جون إكرام أن يكون بطله إبراهيم مسيحياً يحرص على ترتيب أيقوناته، كالمسيح والعذراء، على سطح مكتبه صباح كل يوم، لكنه يبدو مهموماً بقضية الشاب المسلم محروس، بمجرد أن ينتهي من قراءة خطابه إلى الله، ويبدأ التحرك، بوازع إنساني محض، لتقديم المساعدة في ردة فعل تترك انطباعاً مريحاً وشعوراً عظيماً، لدى المتلقي بأنه أمام مخرج مُرهف الحس، فنياً وإنسانياً، لا مكان عنده للتعصب المقيت، يُدرك هدفه، ويعرف كيف يتبنى رسالته بصورة راقية لا مكان فيها للخطاب المباشر أو للنبرة الزاعقة.