أستاذة العقيدة والفلسفة في جامعة الأزهر فايزة خاطر: الغرب انحرف بالربيع العربي من محاربة الفاسدين إلى الفوضى

نشر في 01-07-2014 | 00:02
آخر تحديث 01-07-2014 | 00:02
دعت رئيسة قسم العقيدة والفلسفة السابقة في جامعة «الأزهر» الدكتورة فايزة خاطر إلى ضرورة رفع شعار التقريب بين المذاهب الإسلامية بشكل حقيقي يقضي على جميع الفتن التي تحيط بالمجتمعات الإسلامية من كل جانب، بعدما ذهبت إلى أن الربيع العربي كان في الأصل خروجاً على حكام فاسدين، لكن الغرب تدخل لاستغلاله وتحويله إلى فوضى خلاقة هدفها تقويض المجتمعات العربية من الداخل بإثارة النعرات الطائفية والمذهبية، مؤكدة في حوار مع «الجريدة» أن الثورة السورية باتت النموذج الأمثل للفتنة في العصرالحديث، ومحذرة من أن الفتنة صناعة كراهية بين أبناء المجتمع الواحد تؤدي إلى اقتتال دموي واحتراب أهلي. في ما يلي نص الحوار.
كيف نظر الفكر الإسلامي إلى مصطلح الفتنة؟

الفتنة لها تعريفات كثيرة، ولعل أهمها ما قيل بإنها: «كل ما يبث في المجتمع، ويؤثر في حياة أبنائه تأثيراً مباشراً، وفي ثلاث نواحي أمناً ومعيشة وعقيدة»، ويعرفها الراغب الأصفهاني بأنها أصل الفتن، ويفسرها بأن الفتنة كالذهب إذا أدخل النار تظهر جودته من رداءته. وفي التعريفات الأخرى تعرف أيضاً الفتنة بأنها المفاعلات الكبرى للانحطاط الإنساني، فهي تحول الإنسان إلى وحش ضد أخيه الإنسان ليفعل به ما لا يتفتق عنه خيال الشيطان، وفي تعريف آخر؛ الفتنة هي تجنيد للقوى المظلمة النفسية والاجتماعية، التي يفقد فيها الإنسان التحكم في ذاته، ويعرفها أحد علماء الدين بأنها: «صناعة الكراهية».

 

ماذا عن رصد القرآن والسنة لمفهوم الفتنة وما وسائل تصديهما لها؟

نظراً إلى خطورة الفتنة على المجتمع الإسلامي المدمرة، حذر الله سبحانه وتعالى من الوقوع في براثنها والتعرض لها، ورصد القرآن الكريم الفتنة في آيات كثيرة، ولعل أهمها قوله سبحانه وتعالى:{وأتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب» (الأنفال: 25). وجاء حصر الفتنة في أمرين مهمين قريبين من الإنسان المسلم، وقد يكونا أساس الفتنة له، مصداقاً لقوله تعالى: «إنما أموالكم وأولادكم فتنة» (التغابن: 15)، وكثير من الآيات القرآنية التي تحدثت صراحة عن مخاطر الفتنة. ويأتي التصدي للفتنة بالتمسك بكتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) والتفقه فيهما، كذلك في معرفة منهج سلف الأمة، وقال الله تعالى للمسلمين أن عليهم الطاعة في قوله: «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم» (النساء:59)، حتى يتم النجاة من الهلاك في الفتنة، خصوصاً أن للفتنة مواضع أخرى كفتنة الأغنياء للفقراء والمنحة والمحنة بلاء.

ما صحة حديث «الفتنة نائمة» وما حجم دوره في ممارسة المسلمين للسياسة؟

هذا الحديث ضعيف، وقد ذكره الألباني في كتابه «الجامع الصغير»، ونصه: «الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها»، ومع ذلك نعتبر هذه المقولة ومضة على طريق الحق، وهذا الحديث رغم ضعفه فأنه يحذر السياسيين من الحرب المذهبية بين الفرق الإسلامية، والعمل على توحيد الكلمة ورفع اللواء، ومنع النفخ في نار الفتنة بين السنة والشيعة.

تحث الأحاديث النبوية على اعتزال الفتنة... هل هذا ممكن؟

الرسول عليه السلام كان حريصاً على أمته، ليس من الأعداء بل من الوقوع في الفتنة الداخلية، وكان هذا الأمر واضحاً في أحاديثه كافة عن الفتنة. لكن يمكن القول إننا نستطيع القضاء على الفتنة التي وقع فيها المسلمون عن طريق رفع شعار التقريب بين المذاهب، وطرح حلول لهذا التقريب كخطوة أولى لوقف حمام الدم بين المسلمين، فقد باتت ترعبنا صور القتل والتقتيل بين فئتين كلاهما يتدين بالإسلام.

هل صحيح أن الإسلام أمر باعتزال الفتنة وعدم التورط فيها ولو بتأييد أي جانب من المتصارعين؟

لقد نهى الإسلام عن الفتنة عبر آيات قرآنية عدة، بل واتهم الرسول (صلى الله وعليه وسلم) المشارك في الفتنة بالكفر، وهي درجة يستحق صاحبها قاع جهنم، وقال (عليه السلام) في التحذير من الفتنة: «والذي نفسي بيده ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قَتَل، ولا يدري المقتول في أي شيء قُتِل»، وقال أيضاً: «لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض».

ما الفارق بين الفتنة والثورة والهوجة والعصيان والاحتراب الأهلي من منظور الممارسة الإسلامية؟

تعددت تسميات هذه المصطلحات حسب كل عصر، وحسب كل عالم تناول هذه الأحداث وفسرها وبالتحليل الذي يتماشى مع علمه. لكننا سنعتمد هنا على أشهر التفسيرات الإسلامية لتلك المصطلحات؛ فالفتنة صناعة الكراهية لفريق من المجتمع، وتحريك  الجروح النرجسية الغائرة لجزء آخر من المجتمع، فيطلب الثأر والانتقام وترك القوى الغضبية للدفاع عن نفسه. أما الثورة فهي رفض نظام حكم ظالم، ومحاولة تغييره بنظام أكثر عدلاً. والهوجة هي موجة اجتماعية ليست لها مطالب محددة. والعصيان هو خروج سلمي على النظام برفض الانصياع لأوامره. أما الاحتراب الأهلي فهو عبارة عن مجموعات طائفية تقاتل بعضها البعض. والإسلام حذر من هذا المسلك بين المسلمين لأنه يبيد البشر والحجر، كذلك جعل الاحتراب الأهلي أساس الفتنة وحذر من الوقوع فيها تماماً.

كيف نفرق بين الفتنة كمرادف للخروج على الحاكم والصراع بين مكونات المجتمع؟

لا بد من التفريق بين أمرين مهمين، وهو أن الخروج على الحاكم شيء والفتنة شيء آخر، فمن الممكن أن يكون الخروج على الحاكم مشروطاً بشرط وهو إعلانه الكفر البين، أو إنكاره القرآن، أو التشكيك في حديث نبوي صحيح. وهنا نريد أن نستوضح أمراً مهماً وهو أن الخروج قد تصاحبه فتنة، كأن يقع بعض المؤيدين أو المعارضين في قتال أو اختلاف فهنا تقع الفتنة.

لماذا تواصل تأثير الفتنة الكبرى على مجرى التاريخ الإسلامي حتى يومنا هذا؟

لأن الفتنة الكبرى ترتبت عليها فتن وحروب كثيرة، فقد خرجت فرقتا الشيعة والخوارج من رحم هذه الفتنة مباشرة، ثم تعمقت الخلافات السياسية لتتحول إلى اختلافات عقائدية، ثم أن الخصومة بين الشيعة وأهل الجماعة قد اتخذت ألواناً عدة، وهي انقسامات لم يتم حلها حتى يومنا هذا وظلت معلقة، بل ويزيد تقدم الزمن من شدتها واستحكامها.

إذاً أنتِ مع الرأي الذي يذهب إلى أن الفتنة الكبرى السبب الرئيس في الفتن التي جاءت على مدار القرون التالية؟

كانت الفتنة الكبرى على قضية الإمامة؛ وهي قضية فقهية ولكنها قسمت المسلمين إلى فرق؛ فالشيعة هم من ناصروا آل البيت وفي مقدمهم علي بن أبي طالب، فيما قرر جزء من معسكر علي مغادرته وهم من عُرفوا باسم {الخوارج}، فيما فضل البعض اعتزال الأمر برمته. كذلك ظهرت فرقة السنة بعد ذلك، وهذه الفرق متناحرة في ما بينها حتى الآن، بعدما انقسمت واختلفت في صلب الاعتقادات، والفتنة الكبرى هي الحاضر دائماً عندما تهب الفتنة بين طوائف المسلمين، وكأنها هي الشرارة التي لا تنطفئ عندما تطل الفتنة برأسها حتى ولو كانت فتناً سياسية وليست مذهبية، فالفتنة الكبرى هي المرحلة الفارقة التي انقسم فيها المسلمون وما زالوا.

ألم يضع الإسلام الكثير من الكوابح التي تمنع المسلمين من الانزلاق إلى الفتنة؟

حذر الإسلام من فتنة الحرب الطائفية بين المسلمين، ووضع القرآن الكريم الضوابط الواضحة كي تستطيع الجماعة المسلمة من مواجهة خطر الفتنة، فيقول سبحانه في محكم تنزيله: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} (الحجرات:9)، ومن هذا يتضح أن التصدي للفصل بين الفريقين المتصارعين أمر ضروري في الإسلام.

إذا انتقلنا من التاريخ الحي إلى الحاضر المأزوم... أين يتموضع الربيع العربي بين الفتنة والثورة؟

كان الربيع العربي نافذة للخروج على حكام فاسدين، ولكن الغرب استطاع أن يغير اتجاهها وينحرف بها ناحية الفوضى والتفكك والدخول في صراعات بعيدة كل البعد عن مسار الثورة، التي قامت لأجلها، لتتحول الثورات إلى جزء من تنفيذ مخطط تقسيم البلدان الإسلامية من الغرب، الذي يعمل الآن على بثّ الفوضى الخلاقة (وهي نوع من أنواع الفتنة) لأجل تقسيم الدول الإسلامية إلى أقاليم متمايزة عرقياً و دينياً و مذهبياً. ومن المخطط أن تُقسم سورية إلى أربع دويلات؛ الأولى علوية شيعية في الغرب، والثانية سنيًة ومركزها حلب، وثالثة مركزها دمشق، ورابعة درزية ومركزها في الجولان والجنوب. ولهذا نرى أن ثورة سورية جنحت إلى الفتنة وإلى التقسيم والطائفية، وهو ما يريد الغرب تماماً.

فعلينا جميعاً أن نعترف بأن الثورة في سورية تحولت إلى فتنة، بل أستطيع القول إن الثورة السورية باتت نموذج الفتنة الأمثل في العصرالحديث، حيث أصبحت سورية مرتعاً للمذاهب الإسلامية المتناحرة كافة، يتقاتلون والجميع خاسر في هذه المعركة غير العادلة التي يدفع ثمنها الأبرياء من أبناء الشعب السوري،  فملايين الأشخاص تشردوا والآلاف قتلوا ظلماً وعدواناً. والحصيلة النهائية ضياع سورية وفشل أي من الأطراف في فرض رؤيته على الجميع.

لماذا تطل فتنة الحرب الأهلية الآن على المشهد العربي؟

من وجهة نظري أرى أن ظهور الحرب الأهلية وهي تطل على العالم الإسلامي اليوم، راجع إلى أسباب عدة؛ أهمها عدم وجود زعيم عادل يلتف حوله المسلمون، فضلاً عن البعد عن كتاب الله وسنة نبيه، وغياب العالم الحق الذي يظهر وقت الفتن ليذكر المتحاربين بحرمة الدم بين المسلمين، ويجمع كلمتهم على لا إله إلا الله. فعندما يغيب العدل، ويتربع الفساد والظلم  تظهر الفتنة. يؤدي غياب العدل بين الناس إلى الصراع الطائفي والاحتراب الأهلي والتقسيم والتناحر، فتنهار الدول الإسلامية من الداخل وتصبح فريسة سهلة أمام العدو يفعل بها ما يشاء.

ويغذي الغرب الفتنة في بلاد المسلمين من خلال استقطاب أحد الفصائل وتمويله والوقوف خلفه بكل قوة سياسياً ومعنوياً ليقضي على الطرف الآخر، حتى تضعف الجيوش العربية، ولا يبقى في المنطقة غير الجيش الإسرائيلي.

كيف نصنف الصراع السني- الشيعي في المنطقة العربية؟

للصراع السني الشيعي جذوره التاريخية التي تعود إلى صدر الإسلام، لكنه هدأ لقرون عدة ولم يبدأ في الظهور على السطح مجدداً إلا بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، والتي رفعت شعار ولاية الفقيه، ونشر الأفكار الثورية في الدول الإسلامية. وظهر بعد هذه الثورة {حزب الله} اللبناني، صاحب المذهب الشيعي والذي ينتمي إلى ولاية الفقيه في إيران، وذلك عام 1982. أثار هذا الأمر مخاوف الدول السنية في الخليج العربي، التي بادرت هي أيضاً بتكوين مجلس التعاون الخليجي كاتحاد تجاه خطر إيران الشيعي في المنطقة، وأولى هذه الصراعات نشوب حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران، وكانت حرباً مذهبية لا سياسية. واليوم نرى الدعم المادي والسياسي الإيراني لنظام بشار الأسد في سورية، وهو في حقيقته دعم مذهبي لأجل الحفاظ على الحكم العلوي في سورية الموالية لإيران.

لماذا يصنف علماء الدين التقليديون أي محاولة للتجديد بأنها فتنة؟

حارب الإسلام الغلو وتبنى منهج الوسطية، ويقول تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} (البقرة: 143)، فالوسط الإسلامي هو العدل ومجابهة الغلو، فثمة فريق يتنطع في التعبد تبعاً لهواه وميوله، فوقع في تحريم ما لم يحرمه الشرع ظناً منه بأن الحرام ما يعافه العقل، والحلال ما تميل إليه النفس متجاهلاً أن الدين ليس بالرأي، فإذا نصحه البعض يقول إنها فتنة، ألا في الفتنة سقط ولكنه لا يشعر.

من أين نبدأ مهمة بناء مجتمع إسلامي لا يعرف الفتنة؟

يجب أن نعتمد حلولاً عدة تتفاعل لإخراج المجتمعات الإسلامية من كبوتها الراهنة، وتكوين مجتمعات جديدة تستطيع التغلب على شبح الفتنة بالتغلب على مناخ التكفير، وإعلاء قيم التفكير من خلال إرساء الوسطية الإسلامية، التي تعد إحدى مزايا الشريعة الإسلامية؛ عقيدة وشريعة ومعاملة وسلوكاً وأخلاقاً، لأن التوسط في الأمور كافة أحد أهم وأكبر عوامل تشكيل التوازن بين الأخروي والدنيوي لدى الإنسان المسلم، وبين النقل والعقل، وبين الروحانية والمادية، والمثالية والواقعية.

كذلك لا بد من إقامة العدل بين طوائف المجتمع، بحيث يأخذ كل مواطن حقه ويؤدي ما عليه من واجباته، فضلاً عن إرساء قاعدة واضحة مفادها عدم تكفير المخالف في الرأي، وقديماً قال الإمام الغزالي: {الكفر حكم شرعي كالرق والحرية؛ إذ معناه إباحة الدم والحكم بالخلود في النار}، ولما كان الكفر حكماً شرعياً تترتب عليه أثار خطيرة على هذا النحو، فإنه لا يتأتى الحكم به إلا من أهل العلم الموثوق بهم والمعتبر بفتاويهم، والمأخوذ بأقوالهم ممن توافرت فيهم الملكة الفقهية في فهم النصّ والاستنباط والتنزيل، ويستطيعون ربط الجزيئات بالكليات.

في سطور

تخرجت الدكتورة فايزة محمد فكري خاطر في كلية الدراسات العربية والإسلامية في جامعة الأزهر عام 1973، لتعمل في بداية حياتها مراسلة صحفية في أوروبا لدراسة الأقليات الإسلامية هناك، ثم عملت أستاذة في جامعة «أم القرى» في المملكة العربية السعودية، حيث كانت أول من أعد رسالة دكتوراه عن حوار الأديان.

وصدر لخاطر أكثر من 22 مؤلفاً، آخرها كتاب «الدين الأميركي»، وهي عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في مصر، كذلك حصلت على التكريم من جهات عدة، آخرها التكريم الرسمي من المملكة العربية السعودية، على مجهودها الدعوي والإصلاحي في المجتمع، وحازت تكريماً من شيخ الأزهر الراحل جاد الحق علي جاد الحق لاسهاماتها في المكتبة الإسلامية.

back to top