المرأة ذات الأعوام الكثيرة التي تجلس أمامي الآن، تبدو ملامحها غاضبة لأنها سمعت مني سؤالاً عن علاقتها بالعقاد، الغضب الوقور نفسه، الذي يعكس قيماً أصيلة في الثقافة المصرية، والذي لا تنفلت فيه الأعصاب بل تعاد صياغة المفاهيم...
سألت النجمة الكبيرة، عن علاقتها بالعقاد، فتاهت ابتسامتها، وقالت:- علاقة التلميذة بأستاذها فيها من الأسرار ما هو غير قابل للنشر.وذهبت بخيالها بعيداً...تحرص النجمة الكبيرة، على أن تترك الباب مفتوحاً، من دون إجابات شافية، لا نعرف بالضبط، هل أحبها العقاد، أم أن كل ما تردد عن عشقه لها وأنها كانت {الحب الذي كسر العملاق}، وأنها تركت على خارطة مشاعره العاطفية الكثير من الجراح التي لم تندمل، كانت محض إشاعات أطلقها البعض، ورددها الآخرون، من دون تثبّت.في المقابل، هل خفق قلب الفاتنة السمراء لعملاق الفكر والأدب، رغم فارق السن الكبير بينهما، فهي لم تكن وصلت إلى سن العشرين، بينما كان هو قد تجاوز الخمسين، أم أن أسطورة الحب والتيما زالت سطورها عالقة ومحفورة في ذاكرة البعض، بوصفها إحدى القصص الخالدة، نسجت خيوطها واكتملت ثم تبددت أدراج الرياح، وذلك كله من طرف واحد، بتعبير أدق لم يتبادلا الحب، مديحة أحبت حبه لها، وتركته، وباستمتاع، يواصل العزف منفرداً.هل المسألة برمتها مجرد أستاذ تبنى تلميذة صغيرة توسم فيها نبتة أدبية جيدة، فأغدق عليها من علمه وفكره واهتمامه، وهو ما أثار حفيظة وغيرة البعض تجاه هذه السمراء، التي احتلت مكانة مقربة من الأستاذ، متجاوزة أسماء أكبر منها سناً وإبداعاً، وأقدم منها في علاقتها بالمكان وبالأستاذ أيضاً.تقول النجمة الكبيرة كاتمة غضباً هائلاً:{ثمة كثيرون أحبوني لكن المهم أنا أحببت مَن؟ الحب مسألة شديدة الخصوصية بالنسبة إلي، من دونه لن تستمر الحياة على الأرض، وطبعاً كان من المستحيل بالطبع أن أرتبط بكل من أحبوني، وإلا كانت زيجاتي قد وصلت إلى آلاف الزيجات}.دفتر الأياملم تفهم مديحة لماذا تلعثمت حينما سألها العقاد، في أول لقاء يجمعهما، عن كتاباتها الأدبية، رغم امتلاكها نصوصاً وخواطر عدة، وكانت ذهبت إلى صالونه الأدبي، مع صديقتها، وبصعوبة أجابته: أنا أكتب ولكن {على قدي}، ومش عارفة إذا ينفع ولا لأ؟فابتسم العقاد قائلاً:*ممكن تجيبيه معاك المرة الجاية... وأنا أقولك بالضبط.شكرته ثم ودَّعته مع صديقتها وانصرفتا. وفي طريق العودة قالت صديقتها كلمات كثيرة لم تسمعها، كانت تستعيد في داخلها كل ما التقطته عيناها وسمعته أذناها، كانت مبهورة بثقافة وعلم الرجل وحديثه الشيق وطريقة إدارته للحوارات، طريقة النقاشات مع الجميع و...انتبهت إلى صوت صديقتها تعاتبها على شرودها:الصديقة: أنت مالك ساكتة ليه؟مديحة: أبداً مش قادرة أصدق كل اللي شفته.الصديقة: مش فاهمة.مديحة: أقصد هيبة الأستاذ وضيوفه والمناقشات... بجد مبهورة جداً.الصديقة: وأنا كمان... إحنا لازم نروح كل أسبوع.أمنت مديحة على كلمات صديقتها، فقد كانت مأخوذة بما رأته وسمعته، تعيد التفكير في كل كلمة قيلت، وعندما اختلت بنفسها أخرجت أوراقها وراحت تعيد قراءتها وتنتقي من بينها أنسب وأفضل ما يمكن عرضه على الأستاذ، كانت تدقق وتفحص، وتعيد صياغة هذه الفقرة، وتعدل تلك، وتستدعي أمها لتأخذ رأيها ثم تعدل وتبدل وفقا لملاحظاتها، وهو ما كررته مع خالتها وإحدى صديقاتها التي ساقها القدر بالمصادفة.ظلت مديحة طوال الأسبوع تتأهب للموعد المنتظر، كانت تقتل الزمن بإعادة قراءة ما استقرت عليه من كتابات، أو باختيار الفستان الذي سترتديه يومها، كيف ستبدأ حوارها مع الأستاذ، وبماذا سيعلق، راحت تتكهن رأيه في كتاباتها، وما هي ملاحظاته وغيرها من تفاصيل لم تستطع الهروب منها.وفي اليوم الموعود التقت مديحة صديقتها وانطلقن في طريقهن إلى بيت العقاد في حي مصر الجديدة:مديحة: اتأخرت ليه؟الصديقة: أبدا ما أتاخرتش لسه بدري، الندوة 2 الظهر، وعلى ما نركب المترو ونتمشى حنوصل في الميعاد.ردت مديحة بحسم: لا.. نركب تاكسي.كان إصرار مديحة على أن يستقلا سيارة أجرة هو لرغبتها في أن تصل في أبهى وأجمل صورة ومن دون توتر. لم تفهم الصديقة السبب، خصوصاً أن الوقت ما زال مبكراً، ولكنها في النهاية رضخت لرغبة مديحة واستسلمت لإلحاحها.على باب المنزل لاحظت مديحة وصديقتها أن السلالم هذه المرة نظيفة على عكس المرة السابقة، فيما رمال صفراء وحمراء كانت مبدورة بعناية (منتصف درجات السلم) وعندما وصلن إلى الشقة، كان الباب مفتوحاً والبلاط مغسولاً بعناية لا تخطئها عين.لم يكن أي من الحضور قد وصل بعد، نظرت إلى ساعتها فأدركت أنهما وصلتا مبكراً عن الموعد، فجلستا في المقاعد الخلفية إلى جوار تمثال العقاد، وما هي إلا دقائق حتى اكتمل الجمع، ثم دخل الأستاذ وبدأ حديثه وسط انتباه الحضور.لا تعرف مديحة لماذا شعرت بأن الأستاذ كان يوجه حديثه إليها شخصياً، الأكثر من ذلك، شعرت أنه يرمقها بنظراته بين الحين والآخر، وأن من حولها يلحظون اهتمامه بها.انتهت الندوة وانصرف العدد الأكبر من الحضور، فيما بقيت مع صديقتها للقاء الأستاذ، وما إن جلستا أمامه، حتى بدأ حديثه بتقييم إنتاج صديقتها الأدبي وتوجيه عدد من الملحوظات التي اهتمت بتدوينها، بعدها سألها عن إنتاجها فأخرجت أوراقها ودفاترها فألقى عليها نظرة سريعة، ثم نادى على الخادم وطالبه بإحضار الكتب التي على مكتبه، ثم ناولها إياها قائلا:عاوزك تقرئي الكتب دي بالترتيب والكلمة اللي تلاقيها صعبة حطي تحتها خط علشان أبقى أشرحها لك المرة الجاية.ثم وجه حديثه إلى صديقتها قائلا: أكيد أنت كمان طبعاً ممكن تقرأيها.وقبل أن يهما بالانصراف طالبهما بأن يحرصا على حضور الصالون، وحثهما على قراءة الكتب، وأنه سينتظرهما الأسبوع المقبل.العشق الممنوعفي الأسابيع التالية كانت مديحة أكثر حرصاً من صديقتها على حضور الصالون، كذلك الاستماع جيداً إلى ما يقال حولها، سواء أفكار أو مناقشات وهو ما تعلمت منه الكثير والكثير.تقول مديحة: {كان صالون العقاد وبصدق أقرب إلى الجامعة الشاملة حيث يجد كل طالب ما يبحث عنه من علم، تعرفت من خلاله إلى الكثير من الإبداعات المصرية والعالمية، كذلك شجعني على الكتابة، فكنت أجلس لأراقب أقوال الأستاذ وأهتم بها كثيراً وأدونها، وبعض هذه التدوينات لا يزال لديَّ وأحتفظ به. وثمة عشرات القصص التي كتبتها بعد ذلك، رأى بعضها النور سينمائيا كفيلم {وفاء} الذي أنتجته وقمت ببطولته، والبعض الآخر ما زال حبيس الأدراج حتى الآن. كذلك تعلمت أن أستمع جيداً إلى كل الآراء وأحترمها حتى التي أختلف معها، إضافة إلى التركيز في الحديث وشرح الفكرة بشكل مبسط ومختصر، وهو ما أفادني كثيراً في عملي الفني في ما بعد، أو بتعبير أدق ساعدني على إعادة تشكيل شخصيتي الفنية}.هل كان العقاد يرى في مديحة مشروع مبدعة جديدة فعلاً، ومن ثم راح يتعهد موهبتها بالرعاية؟ أم أن الرعاية مجرد وسيلة للتودد؟الكاتب الكبير الراحل مصطفى أمين وفي مقال له بعنوان {العملاق الجبار يحب طفلة صغيرة}، أشار إلى أن العقاد أحب السمراء الفاتنة فعلاً ونظم فيها الشعر، وربما كانت أمنيته أن يجعل منها أديبة مثل مي زيادة، حب العقاد الأول. كان يعتقد أن السمراء الفاتنة لو أعطت كل وقتها وجهدها إلى الأدب ستستطيع أن تجمع بين فتنة الجمال والعلم، بينما هي لم تر في نفسها المرأة التي يتخيلها العقاد، فهي تريد أن تكون نجمة سينمائية لامعة، فقط كانت تشعر نحوه باحترام ولكنها لم تحبه وشعرت أنه أكبر كثيراً من أن يُحب فتاةً صغيرةً.كانت أمنيته أن يجعل منها نسخة من الأديبة المعروفة وصاحبة الصالون الأدبي الأكثر شهرة في النصف الأول من القرن العشرين، مي زيادة التي أحبها العقاد بجنون في شبابه، لكن تمسكه بالعادات والتقاليد الصعيدية التي تربى عليها وغيرته الشديدة بسبب علاقات مي المتعددة، حالا دون ارتباطهما، إذ كانت ترفض باستمرار أن يستأثر {صاحب العبقريات} بها، ما أدى في النهاية إلى فشل مشروع زواجهما، بعدما طلبها للزواج صراحة.كذلك كان الأستاذ يرى فيها مؤهلات تعوضه عما افتقده مع مي حبه الأول وعشقه الثاني «سارة»، وهو الاسم البديل الذي اختاره العقاد لبطلة روايته الوحيدة وفقاً لما أكده في مجموعة المقالات التي كتبها العام 1938 تحت عنوان «مواقف في الحب» لمجلة «الدنيا» الصادرة عن دار «الهلال»، والتي جمعها في ما بعد في كتاب حمل اسمها.في المقالات والقصة نفسها ما ينفي تماماً أن مديحة هي بطلة رواية «سارة» كما يردد البعض، ولكنها فتاة أخرى ممشوقة القوام جميلة المنظر يشع نور الشمس من بين عينيها كما وصفها العقاد، مشيراً إلى أنها فتنته برقتها وعذوبة منظرها، فكان يراقبها ويسير وراءها ويتحسس خطاها في شوارع القاهرة، وقد اندفع في عشقها بلا هوادة. ورغم من حبه لها فإنها انصرفت عنه وأقامت علاقة مع رجل آخر، والمدهش أن هذا الآخر كان لا يجيد القراءة ولا الكتابة، ما أصاب كرامة العقاد وكبرياءه في مقتل، وكلف أحد أصدقائه بمراقبتها، فعلم أنها غانية تتاجر بأنوثتها، فلم يتراجع عن حبها، بل ظل وفياً لها. أما هي فبررت خيانتها له بضيقها من شكه وغيرته.اعترافاتمجدداً، هل وقع الأستاذ فعلاً في غرام تلميذته الفاتنة السمراء، وحالت دون ارتباطهما رغبتها في التفرغ للتمثيل، خصوصاً بعدما بدأت تخطو فيه أولى خطواتها وتحقق من خلاله نجاحاً يؤهلها للاستمرار؟ ولماذا تنكر مديحة الآن ما سبق واعترفت به في سنوات سابقة؟في حواراتها، تتجاهل مديحة عمداً الحديث عن العقاد، بل وتؤكد أنها وحدها التي تملك الحقيقة، وأنها ستكشف عنها في الوقت المناسب. كذلك تؤكد أن انسحابها من الصالون وابتعادها عن الأستاذ يرجع إلى انشغالها بالفن، وتوضح أنها ستظل تتذكره بالخير، فقد أثر كثيراً في شخصيتها، ورغم قصر علاقتهما زمنياً فإنها كانت مفيدة ومهمة بالنسبة إليها، كما تقول.يتعجب الناقد طارق الشناوي من نفي مديحة يسري الآن قصة الحب «الموثقة» مع العقاد، ليس فحسب عبر شهود العيان من رواد الصالون أو الذين صارحهم العقاد بمشاعره، ولكن لأنه في أرشيف مديحة يسري الصحافي ما يشير إلى أنه أحبها فعلاً. بل إن إحدى القصائد التي كتبها لها كشفت عنها مديحة بنفسها، كما أشار فيها الأستاذ إلى «كوفية» و{مِعطف» كانت نسجتهما له بيديها «بخيوط التريكو». وفي كتابات أخرى دونها رواد الصالون، أشاروا إلى أنه تألم كثيراً من انسحابها المفاجئ، وبالتالي فراقها. ولولا مساندة أصدقائه له، ربما لم يكن ليتجاوز محنته كعاشق.يواصل الشناوي قائلاً: «كان الفنان التشكيلي الكبير الراحل صلاح طاهر أحد شهود العيان على قصة الحب تلك، فهو أحد تلامذة العقاد، بل كان ومنذ الثلاثينيات من القرن الماضي أحد أكثر المقربين إلى هذا العملاق، ومع مرور الزمن أصبح صديقاً حميماً. وقد أتيح لي أن ألتقي به كثيراً في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي في منزل الموسيقار الكبير مدحت عاصم، حيث كان بيته يقع بالقرب من مرسم الفنان التشكيلي الكبير. كنت أحرص على أن أستمع إلى الكثير مما يرويه الأستاذان سواء في الفكر أو حتى في أمور الحياة العامة، وقد ذكر طاهر في أحد الحوارات أن الحب الحقيقي للعقاد نجمة سينمائية سمراء، كانت قبل احترافها الفن تحرص على حضور الصالون الثقافي في منزل الكاتب الكبير، ومن ثم وقع في حبها، وكتب عنها بعض أشعاره، ولكن غريزتها الفنية كانت أقوى، فغادرت حياة العقاد بعدما فشل في إقناعها بالابتعاد عن الفن. وعليه، لم يستطع أن ينساها وظل مصدوماً ومعذباً لفترة طويلة، عاشها معه كثير من تلامذته وأصدقائه في آن.مواقف في الحبالمؤكد أن الفتاة التي دخلت قائمة السيدات العشر الأكثر جمالاً على كوكب الأرض في أربعينيات القرن العشرين، (بعد نشر صورتها على غلاف إحدى المجلات المصرية، ومن ثم اختارتها مجلة أميركية شهيرة ضمن وجوه أخرى جميلة)، أحبها العقاد وذاب في عشقها وكتب فيها الكثير من الأشعار.أحبها العقاد لدرجة جعلت كل المحيطين بها يحسدونها على اهتمامه بها، وأنها أحجمت عن الذهاب إلى صالونه الأسبوعي حتى تمنح الرجل فرصة لانتزاع سهم كيوبيد المستقر بأمان داخل قلبه.يواصل الشناوي قائلا: {لم ينقذ العقاد من هذا الحب سوى تلميذه وصديقه صلاح طاهر، إذ رسم له لوحة عبارة عن كعكة كبيرة شهية تحوم حولها الحشرات، وقد رمز صلاح إلى هذه النجمة بالكعكة. أما الحشرات فهو المجال الفني الذي اختارته. وفعلاً تحولت أنامل الفنان التشكيلي الكبير إلى طبيب نفسي نجح عبر الألوان والظلال في إخراج شحنات الغضب من داخل الأستاذ، وقد ظلت اللوحة معلقة فوق سرير نوم العقاد حتى رحيله، وكلما تذكرها وأضناه السهر وعز عليه النوم أطال النظر إلى اللوحة حتى يستطيع بعدها أن يخلد في سبات عميق. أما المعطف والكوفية اللذان صنعتهما أنامل السمراء الفاتنة، فلم يعثر لهما بعدها على أثر، وربما في لحظة غضب أحرقهما الأديب الكبير.المؤكد أن مديحة انسحبت من حياة العقاد، ربما لأنها لم تبادله الحب وبقي بالنسبة إليها مجرد أستاذ معلم، وربما لأنها اختارت الفن الذي أخلصت له لأكثر من نصف قرن، خصوصاً عندما شعرت بحبه لها وأنها ستسبب له صدمة عاطفية كبيرة، وعليه قررت الانسحاب من حياته وكان ذلك بالتزامن مع دخولها عالم السينما والأضواء.وربما انسحبت لأنه كان يكبرها بأكثر من ضِعف عمرها، وقد تكون طباعه الحادة وغيرته عليها سببين إضافيين. لكن المؤكد أنها ظلت بعد انقطاعها عن صالونه حريصة على أن تتواصل معه على فترات متباعدة في المناسبات العامة ومن خلال بعض الاتصالات الهاتفية، كما أكدت هي، وظلت على هذا النحو حتى وفاته، بينما يؤكد عدد من تلامذته والمقربين منه أنها لم تزره أبداً، حتى خلال مرضه الأخير قبل الوفاة لم تقطع الخصام رغم سؤاله عنها ورغبته في رؤيتها.
توابل
مديحة يسري... سمراء النيل: أسرار علاقتي بالعقاد غير قابلة للنشر (6)
04-07-2014