انهيار الموصل يكشف تآكل النظام السياسي في العراق
حمل فجر الثلاثاء للعراقيين ما لم يكن أحد يتوقعه حتى بين أكثر المتشائمين لمستقبل صراع الإرادات في البلاد، فرغم كل الأخطاء والأداء الضعيف وتأخر الحسم، ظلت القوات المسلحة متماسكة في الفلوجة والرمادي منذ ستة أشهر، قادرة على الرد بسرعة، وتطويق حركة المسلحين، لكن نحو 50 ألف عسكري في نينوى شمال البلاد، عجزوا عن الصمود ثلاثة أيام أمام بضعة آلاف من مقاتلي تنظيم داعش، الذين أحكموا السيطرة على الموصل مركز ثاني محافظة في البلاد من حيث عدد السكان، وذات الموقع الاستراتيجي المحاذي لإقليم كردستان وتركيا وسورية.ومنذ خروج الجيوش الأميركية في نهاية عام 2011 تواصلت تحذيرات جدية بشأن نقص تأهيل القوات المسلحة، وزادت معدلات القلق بعد تطور الأحداث في سورية، لكن لم يتوقع أحد انهيارا سريعا للجيش وقوات الأمن في هذه المنطقة المهمة، وظلت أطراف سياسية أساسية تقول لرئيس الحكومة نوري المالكي، إن التهدئة السياسية أمر بالغ الأهمية لمواجهة تحديات الأمن على حدود سورية الملتهبة، وإن تنظيمات العنف هي المستفيد الأول من تخريب التسويات السياسية، والفجوة العميقة التي حصلت بين الأحزاب، حين بدأ المالكي يعيد كتابة قواعد اللعبة بمفرده، ويستخدم كل نفوذه في إخضاع الخصوم دونما اكتراث بالعواقب، رافضا الإنصات لمن حذروا من تآكل النظام السياسي الفتي، الذي انكشف بنحو مروع في عملية انهيار الموصل.
ويتذكر الساسة هذه اللحظة النصائح الشديدة اللهجة التي قدمتها القوى السياسية في إقليم كردستان، والقوى الشيعية المعترضة على نهج المالكي، ومرجعية النجف، بضرورة المبادرة لإصلاحات عاجلة وتفاهمات، توحد الموقف السياسي ازاء التحدي الأمني الشامل، بدلا من الانشغال بتوسيع هوة الخلافات، التي جعلت المالكي يذهب وحيدا الى الحرب بلا دعم من الكرد كحليف تاريخي، ولا تفهم من شركائه الشيعة، مع اعتراضات متواصلة من النجف. وقبل عام، وجه زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر رسالة مفتوحة الى رئيس الحكومة يلخص فيها «نظرية العمل» التي طالب بها خصوم المالكي للتعامل مع المأزق الأمني في المحافظات السنية، ودعا عبرها الى إبرام «تسوية كبرى» مع مراكز القوى في تلك المناطق، من شأنها توحيد كل العراقيين لمواجهة خطر داعش، إلا أن المالكي قام بتبني طريقة عمل معكوسة، حرص فيها على الاستمرار في إخضاع خصومه عبر الملاحقات القضائية وتحريك الجيش، وهو ما يعتقد كثير من الساسة أنه أسلوب شجع «داعش» على التمدد وتوسيع نشاطاتها تحت غطاء «الدفاع عن مظلومية السنة».أبرز مظاهر هذا التمزق، هو أن بغداد تعلن حاجتها الملحة لإسناد قوات البيشمركة الكردية، الأكثر تنظيما وأعدادا مقارنة بالجيش العراقي، لكن المالكي ينتبه فجأة الى أنه منع دفع مرتبات هذه القوات طوال الأشهر الخمسة الماضية، في مفارقة بالغة الدلالة على خطورة الانقسام السياسي الذي تزامن مع الانهيار الأمني غير المسبوق ومهد له.وخطر تمدد داعش هذه المرة، يشمل الجميع، أكرادا وسنة شيعة، وهو ما عبر عنه رئيس البرلمان أسامة النجيفي في كلمة حزينة أمس، داعيا الى لقاء فوري بين القيادات السياسية، لمواجهة الأمر، وهو ما تجنب المالكي التعليق عليه في كلمة لاحقة ظهر خلالها فاقدا لرباطة جأشه المعهودة، مطالبا بالتعبئة العامة وإعلان حال الطوارئ، المتوقع أن يرفضها البرلمان، وسط أسوأ موجة قلق تضرب كل مدن العراق المصابة بالذهول.