قبل أكثر من 75 عاماً، وتحديداً في يناير 1938، أطلقت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) خدمتها العربية، كتعبير إعلامي مسموع يستهدف العالم العربي، لم يكن المدير العام للهيئة لورد ريث حينذاك مؤمناً بالفكرة؛ إذ كان يخشى على استقلالية الإذاعة وحيادها الذي تعتبره أهم ما تملك.

Ad

على أي حال انطلقت الخدمة، وذهب السفير البريطاني في المملكة العربية السعودية إلى خيمة الملك عبدالعزيز، ليسمع معه أول نشرة أخبار باللغة العربية من "بي بي سي"، لكن الحاضرين بهتوا جميعاً عند سماع الخبر الثالث؛ إذ كان نص الخبر كما يلي: "تم شنق عربي من فلسطين بناء على أمر من محكمة عسكرية بريطانية، إثر ضبطه وبحوزته أسلحة وذخائر...".

يعلق السفير البريطاني على الموقف داخل خيمة الملك في خطاب أرسله لمسؤولي وزارته في لندن قائلاً: "صمتنا جميعاً داخل الخيمة، وتفرق جمعنا من دون النطق بأي كلمة". الملك عبدالعزيز أبلغ البريطانيين استياءه الشديد، وعلق قائلاً للسفير البريطاني: "كحاكم، أتفهم أن أولى مهمات الحكومة هي الحفاظ على النظام، لكن هذا الفلسطيني لم يكن ليعدم لو لم تكن السياسة الصهيونية للحكومة البريطانية وراء ذلك".

شعرت الخارجية البريطانية بإحراج شديد، وأحس المسؤولون أن "بي بي سي" ليس فقط لا تساعدهم في عملهم في المنطقة، لكنهم شعروا أيضاً أنها ربما "تعوق عملهم وتضر به"، وهو ما دفع سياسي بالوزارة إلى الكتابة معلقاً: "هل يجب على الهيئة أن تذيع خبر إعدام كل عربي... هذا غير ضروري بالمرة".

اندلعت أزمة حادة بين وزارة الخارجية وهيئة الإذاعة البريطانية، ونددت الهيئة بمحاولات الوزارة التدخل في عملها، واستطاعت أن تخرج من هذه الأزمة منتصرة، وحافظت على قدر من الاستقلالية، سيكون له الإسهام الأكبر في المكانة التي حظيت بها طيلة العقود الفائتة.

حاولت الدولة البريطانية أن تطور تعبيراً إعلامياً جديداً يمكّنها من أن تفرض نوعاً من التوجيه أو السيطرة على ما يقدمه من معالجات إخبارية للأحداث، فأنشأت ما عرف لاحقاً بمحطة "الشرق الأدنى"، لتستخدمها كوسيلة موجهة تروج لسياساتها في المنطقة، فقاطعها الجمهور والمذيعون والصحافيون، وتوقفت عن العمل.

 لكن "بي بي سي" ظلت متقدمة ومتألقة تمارس عملها وفق رؤيتها المهنية لأقصى درجة ممكنة، بعيداً عن سيطرة السياسي و"مطالبه وتوجيهاته".

لم يقتصر هذا الأمر على "بي بي سي" العربية فقط، لكنه امتد ليشمل الخدمتين المحلية والعالمية، وقد ساعدها في ذلك نظام التمويل الفريد، الذي يفرض على كل حائز لجهاز تلفزيون أو راديو في المملكة المتحدة مبلغاً معيناً يدفعه كـ"رسم رخصة".

توجه حصيلة تلك المبالغ مجتمعة إلى صندوق، يتم الإنفاق منه على أنشطة الهيئة المختلفة، وبذلك يتم ضمان حد أدنى من الاستقلالية التمويلية تبقي الهيئة بعيداً عن سيطرة الحكومة، ويقوم "البرلمان" بمراجعة ميزانية الهيئة، ويحدد استراتيجية إنفاقها مرة كل أربع سنوات، وهو الأمر الذي مضى بسلاسة عادية، ولم يفجر مشكلات كبيرة حتى وقتنا هذا.

تمثل فكرة "بي بي سي" في بريطانيا أوضح أنماط "الخدمة الإعلامية العامة"؛ أي الهيئة الإعلامية التي يمتلكها المجموع العام، وتقوم على خدمة المجموع العام، بشكل متوازن وعادل، ومن دون أن تخضع للسلطة التنفيذية، التي لا تمثل سوى الحزب أو "الائتلاف" الفائز في الانتخابات العامة في فترة زمنية محددة.

إنها فكرة جيدة بكل تأكيد، فوسائل الإعلام المملوكة للدول في مناطق كثيرة من العالم تخضع لسيطرة الحكومات، وهو الأمر الذي يحولها في أغلب الأحوال إلى وسائل دعاية للحكومة.

تعرف الدول العربية كلها نمط وسائل الإعلام المملوكة للدولة، لكن تلك الوسائل التي تتكون عادة من محطات إذاعة وتلفزيون وصحف في بعض الأحيان لا تعمل لمصلحة المجموع العام بمكوناته المختلفة ومصالحه المتضاربة، لكنها للأسف الشديد تكون مخطوفة للفئة الحاكمة، التي تعمل على تمويلها من ثروة البلاد أو من أموال دافعي الضرائب، لكنها تسخرها بالكامل لخدمتها.

ثمة طريقة سهلة للسيطرة على وسائل الإعلام المملوكة للدولة في المجتمعات غير الديمقراطية، حيث تخطف الحكومة لنفسها حق تعيين قيادات تلك الوسائل من جهة، وحق الإشراف على تمويلها وإدارة أصولها، بما يتضمنه من سد العجز عبر المنح المالية، من جهة أخرى.

حين تحتكر الحكومة صلاحيات التمويل وتعيين القيادات، فإنها تكون قد أحكمت سيطرتها على تلك الوسائل؛ وهو الأمر الذي نجده في أوضح صوره في دول مثل كوريا الشمالية، والصين، وفي أغلب الدول العربية.

كانت "بي بي سي" تمثل مصدر إلهام لكل وسائل الإعلام المملوكة للدولة في معظم دول العالم، ولطالما ناضل إعلاميون في مناطق عديدة لكي يتم تحرير وسائل الإعلام العامة من سيطرة الحكومات على غرار المعمول به في تلك الهيئة العريقة.

يتضمن هذا المطلب ضرورة أن تنص التشريعات على حرية وسائل الإعلام المملوكة للدولة واستقلاليتها، وعلى ضمان تمويلها من الجمهور، أو الموازنة العامة للدولة، عبر آليات تخضع لرقابة "البرلمان".

ويطالب هؤلاء الإعلاميون بأن تقوم على إدارة تلك الوسائل هيئات مستقلة، ذات تمثيل عريض ومتوازن، يعكس المصالح المتوازنة للجمهور الذي تخدمه، ويعبر عن المصلحة العامة في آن واحد.

ورغم أن نموذج هيئة الإذاعة البريطانية، وبعض أمثاله في دول أخرى مثل الولايات المتحدة، وألمانيا، والدول الإسكندنافية، كان مصدر إلهام في ذلك الصدد، فيبدو أن "بي بي سي" تتراجع عن هذا الالتزام راهناً.

يثور جدل كبير في بريطانيا في هذه الآونة، وتحتدم أزمة جديدة بخصوص "بي بي سي"، بعدما تم توجيه اتهامات لرئيس الحكومة ديفيد كاميرون، وبعض وزرائه، بمحاولة التدخل في تعيين قيادة جديدة لهيئة الإذاعة البريطانية، وهو أمر يثير حساسية كبيرة.

كان رئيس "بي بي سي" كريس باتن قد استقال لأسباب صحية، قبل أن تعلن الهيئة تلقي طلبات لشغل منصبه، وهو المنصب الذي يعد واحداً من أرفع المناصب الإعلامية في العالم، لكن يبدو أن كاميرون سعى إلى تزكية اسم معين للفوز بهذا المنصب، وهو الأمر الذي لاقى احتجاجات كبيرة، واعتبر محاولة من الحكومة لسلب الهيئة استقلاليتها، التي تعد أحد أهم أركان تميزها على المستويين المحلي والعالمي.

ومما يزيد الأمر صعوبة أن "ميثاق المملكة" الذي يضمن الاستقلالية المالية للهيئة عبر تقنين "رسوم الرخص" (مصدر التمويل الأساسي) سينتهي العمل به في عام 2016، وسط اعتراضات من جهات مختلفة على تمديد العمل به.

يطعن بعض ملاك وسائل الإعلام الخاصة في بريطانيا، ومنهم جيمس نجل إمبراطور الإعلام روبرت مردوخ، في "رسوم الرخص"، ويعتبر أنها تنال من قواعد المنافسة العادلة، ويشكك آخرون في جدوى دفع تلك الرسوم لمصلحة وسيلة إعلامية مملوكة للدولة في مجتمع "حر" يعرف صناعة إعلام قوية ومزدهرة، ويحظى بآليات تنظيم ذاتي جيدة، وفي الوقت الذي يسعى إعلاميون وناشطون ومثقفون في الدول العربية إلى استنساخ نموذج "بي  بي سي" في مجتمعاتهم، تأتي تلك الأزمة لتلقي بظلال قاتمة على الهيئة العريقة.

المعركة التي تخوضها "بي بي سي" راهناً لا تتعلق باستقلالية الهيئة وقدرتها على إدامة مصدر تمويلها المباشر من الجمهور صاحب المصلحة في ما تقدمه فقط، لكنها معركة تخص الحفاظ على نموذج "وسائل الإعلام العامة المستقلة" الذي يبدو أنه بات بعيد المنال حتى في أعرق الديمقراطيات.

* كاتب مصري