الحديثُ عن الشاعر الإيطالي أونكاريتي (1888-1970) يتطلب تعريفاً موجزاً عن «الهرمسية الشعرية». إنها، كتيار فلسفي، ديني وعلمي، تُنسب في العصور القديمة الى «هرمس» مثلث الحكمة، أو النبي إدريس كما جاء في المؤلفات العربية. الفنُّ الذي يعتمد على الكتابة، ويمارَسُ كضرْب من السحر والعرافة، يفترض غموضاً واتصالاً ما ورائياً. يفترض إلهاماً ومقاصدَ عصية على المدركات العامة، ولذلك يتوسلُ الرموزَ والمجازات. الهرمسية الشعرية إذاً تصلح على كل شعر يستخدم الأساليب الرمزية الغامضة التي تشير الى ما هو غائم وخفي، أما كمدرسة محددة بتاريخ فتشير الى تيار شعري نشط في منتصف القرن العشرين، منتفعاً من جذورٍ تعود الى نوڤاليس و أدكار ألان پو، ثم ترقى الى الرمزيين الفرنسيين من أمثال بودلير، مالارميه، رامبو، وڤاليري، وأعني به التيار الإيطالي الذي جمع شعراءَ على رأسهم أونكاريتي.

Ad

 سعى هذا التيار الى تعرية اللغة الشعرية من أي زُخرفٍ وهواجسَ بيانية، والى تكثيف الامكانات الغنائية في الكلمة المفردة المجردة. وجد الشاعر بديلاً في الامكانات الموسيقية للكلمات.

المختارات الجديدة في الانكليزية من شعر أونكاريتي (صدرت عن دار carcanet) تكشف عن بعض هذه الخواص البصرية بصورة مباشرة. فأكثرُ القصائد لا تتجاوز ثلثَ الصفحة، والبيتُ الشعري لا يتجاوز أحياناً الكلمةَ والكلمتين. ولكن المذهلَ أن هذا الإيجاز التلميحي من الغِنَى بحيث تبدو القصيدةُ أكبرَ حجماً مما تحتل من مساحة. الفراغُ، والبياضُ، والصمتُ تحتل أفقاً غير محدود. والشاعر في كل كلمة كاملُ الحضور، لأنه شاعرُ حكمة رعاها، مثل اليوناني كفافي، في عالم الاسكندرية المحاذي لعالم الصحراء، عالم البداوة وثقافتها، الذي أصبح في مخيلته صوراً لا زمنية بالغة الضخامة. كانت الصحراء بالنسبة لأونكاريتي أكثرَ الصور ملاءمةً للأبدية، التي تبدو حياتنا فيها كسراب. لقد كان مُتضارب المشاعر بالنسبة الى الصحراء والمدينة المحاذية لها. حتى كانا يوماً أماكن نعيم فردوسية:

«الآن/السماء الصاحية/ مغلقةٌ/ كياسمينة/ في هذه الساعة/ من وطني افريقيا»

لقد جاء والد الشاعر الى الإسكندرية مع العمال الأجانب، الذين جاءت بهم حكومة إسماعيل باشا للإسهام ببناء مشروع قناة السويس. توفي خلال ساعات العمل في الحفر، والشاعر لم يتجاوز السنتين. فتولّتْ والدتُه تنشئتَه وأخاه الأكبر كصاحبة مخبز محلي في الحي الإيطالي. في 1912 انتقل الى باريس للدرس، وقد كانت الاسكندريةُ مشبعّةً بالثقافة الفرنسية. في 1914 انتقل الى روما حاضرةِ مجده الشعري. جاءها مع ازدهار المستقبليين، وبعد تأثرٍ بهمٍ، وميلٍ إليهم، انفصل عنهم بسبب عمق أخلاقيته الجدية، وميله الفلسفي. كان يقول عنهم: «فيما كنت لا أملك أن أستخدم كلمةً إلا حين تقبل علي معبّأةً بالمحتوى الأخلاقي، كانوا لا يتطلبون من الكلمات إلا قدراتها الانطباعية الفيزيائية». حتى حماسته اتجاه الفاشية واتجاه موسوليني لم تكن إلا وليدةَ هذا الهاجس الأخلاقي. كانت الفاشية قبل الحرب الأولى دعوة إيطالية للنظام، والمساواة، وحقوق العمال. وحين كشفت عن حماقتها القومية المبتذلة تخلى عنها وانتقدها.

في الحرب الأولى كان مقاتلاً، وتعرضُه لمخاطر الموت اليومية حدد معالمَ لغته الشعرية: «كشفت الحرب لي فجأةً لغة صوتي الخاص كشاعر. صار علي أن أتحدث أسرعَ بسبب ضيق الوقت. صار علي أن أُعبّر ببضع كلمات عن كثافة استثنائية للدلالة».

«حين أقع على/ كلمةٍ/ في صمتي هذا/ أقع عليها محفورةً/ داخل حياتي كهوّة»

«الشعر لدى أونكاريتي وسيلة لاستخدام الذاكرة»، يقول أندرو فريساردي مترجم أشعاره إلى الانكليزية، «الذاكرة الجمعية، التي تجسدها اللغة، من أجل اكتشاف البراءة. حيث العالم من جديد في صفائه البكوري». في قصيدة كتبها عام 1916 عن صديق عربي في باريس:

«كان اسمه/ محمد سياب/ سليل/ امرأة البادية/ منتحر/ لأنه لم يعدْ يملك/ وطناً/ أحب فرنسا/ واتخذ اسماً فرنسياً/ مارسيل/ ولكنه لم يكن فرنسياً/ وما عاد يعرف/ كيف يحيا/ داخل خيمة أهليه/ حيث تسمع القرآن/ وهو يُرتّل/ وتستمتع بمذاق قهوتك/ ولا يعرف/ كيف يُطلقها حرّةً/ أغنيةَ خرابه...