لم أتردد في الوقوف إلى جانب المنتج أحمد السبكي في مواجهة حملة المقاطعة التي استهدفته، واتهامات التحرش التي لاحقته، لكن لا شيء يمنحه الحق في أن يعيث فساداً في الساحة السينمائية بفيلم مثل «عش البلبل»، الذي لا يمت بصلة إلى صناعة السينما أو الفيلم السينمائي، وينحو إلى الفحش والمجون، وكأنه يكرس نوعاً من «السينما المنافية للآداب»، إذ يبدأ بكاميرا إيهاب طاهر، وهي تستعرض مؤخرة الراقصة دينا وهي تختال بأنوثتها في الحارة، ثم المغنية الشعبية بوسي وهي تتباهى بنهديها أثناء نشر الغسيل فوق السطوح، وينتهي بالكل يغني ويرقص، حسب الخلطة {السبكية} المعتادة!

Ad

بين فاصل من الأغنية الهابطة ووصلة رقص ساخنة يتحول العمل إلى مجموعة من {الإسكتشات} التي لا رابط بينها، فضلاً عن {الحواديت} القديمة والأفكار المستهلكة، التي اجترها صانعو {عش البلبل} من أفلام السينما المصرية، لكنهم أضافوا إليها {أيقونة} السينما السبكية، التي لا يخلو فيلم منها، وهي {الصفعات} المنهالة بلا حساب على وجوه {الهلافيت}، وكأنها ثمن ظهورهم على الشاشة!

المثير للدهشة أن {عش البلبل}، رغم فجاجة طرحه، وفحش لغته، وغياب الحبكة عن أحداثه، لم يخل من لمحات عابرة كان يمكن استثمارها بشكل جيد لو أن ثمة من يملك ذهناً متوقداً، وحساً جمالياً، وقدرة على التوظيف الدرامي؛ فاستعارة شخصية {الشيطان}، التي جسدها ببراعة الممثل القدير غسان مطر، تميزت بالطزاجة واتسمت، على غير العادة، بالطرافة والسخرية، وأسهم الحوار بشكل كبير في إكسابها خفة ظل لم تتوافر لها على الشاشة سابقاً؛ إذ جرت العادة أن تُقدّم الشخصية بصورة تغلب عليها الواقعية، والالتزام بالنمطية، ربما خوفاً من تربص الرقابة، لكنها في {عش البلبل} خالفت التوقعات وتعارضت مع المسلمات والبديهيات، ليس فقط لأن الشيطان هذه المرة يرى أن {البشر أكثر دهاءً من الشياطين}، أو لأنه يُقسم بالطلاق، وإنما لأنه يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم عندما تصدم عيناه بالقبح؛ فالشيطان أيضاً يحب الجمال، ويطرب لكلمات الإطراء.

لكن الشخصية التي تتمتع بخفة ظل رائعة لم تحل دون وقوع العمل في فخ السوقية والركاكة والسطحية، مثلما لم ينقذ اللجوء إلى فن {البارودي} Parody؛ أي المحاكاة الساخرة والتهكمية للأفلام السابقة، الجمهور من صخب التجربة وضجيجها، وتلوثها السمعي والبصري؛ فالمحاكاة التي تستهدف الضحك العفوي والبريء لم تحقق مبتغاها، والنظرة الساخرة والرؤية التهكمية ضلا طريقهما، وحتى إزجاء التحية لأفلام مثل: {شارع الحب} و}الفرح} و}عبده موتة} و}قلب الأسد}، أو لشخصيات مثل: توفيق الدقن وعبد الوارث عسر وكرم مطاوع، والتندر بالشخصيات السينمائية التقليدية مثل {المأذون} أو الواقعية مثل المحامي الذي يبتز الجميع بالسيديهات، لم تنفذ بدقة ووعي وإحكام فضاع بريقها، وانعدم تأثيرها، وإن لم تتسم، والحق يُقال، بالغلظة التي رأيناها في أفلام سابقة وظفت فن {البارودي} بشكل أكثر سوءاً وفجاجة! يُلفت النظر هنا أن الخط الفاصل بين عمل المخرج حسام الجوهري، ودور كاتب سيناريو {عش البلبل}، يكاد يكون مفقوداً بحيث لا تعرف، كمتلقي، حدود ما قدمه أي منهما؛ فالأخطاء الدرامية الكارثية، والحيل النمطية الساذجة للمؤلف، تُقابلها أخطاء فادحة من المخرج الذي نفذ تعليمات المنتج بالحرف الواحد، ومن ثم ترك الحبل على الغارب لكل من أراد أن يغني أو يرقص أو يُلقي {الإفيه}، ولم يضع في اعتباره أن ثمة عنصراً في الفيلم السينمائي اسمه {الإيقاع}، وأن لديه سلاحاً اسمه {المونتاج}، وكانت النتيجة أن المخرج الشاب الذي أنجز فيلمي {شارع 18} (2008) و}رد فعل} (2011)، وتخصص من خلالهما في سينما الـ thriller أو ما اصطلح على تسميته أفلام الألغاز والإثارة البوليسية، انقلب على ذاته، في فيلمه الثالث {عش البلبل}، وفقد سيطرته على أدواته؛ فالموسيقى التصويرية متنافرة، وكأنها وضعت لكل موقف درامي على حدة، والإيقاع مختلّ، والانضباط غائب، بينما يسيطر الملل على مواقف عدة، نتيجة عدم القطع، مونتاج محمد عباس، في الوقت المناسب، واختيار زوايا تصوير واحدة للأغاني كافة، وانفلات زمام قيادة جوقة الفنانين والراقصات الشعبيين، الذين يقودهم {السبكي}، ويتصور أنه صنع منهم نجوماً في التمثيل، فاتسم أداؤهم بالركاكة والهزال، باستثناء الممثل الشاب كريم محمود عبد العزيز، فهو يثير الشفقة والرثاء، كونه يعد بكثير في مجال الكوميديا، لتمتعه بخفة ظل كبيرة ومرونة واضحة ولياقة فائقة تؤهله، في حال تهيأت له فرصة العمل تحت قيادة مخرج موهوب، لأن يصبح أحد أهم الوجوه الجديدة في اللون الكوميدي؛ فالفتى تشبّع بوالده الفنان الكبير محمود عبد العزيز لكنه اختار لنفسه بصمة خاصة وأسلوباً مميزاً، وتغلب على أدائه السلاسة، كذلك يملك {كاريزما} تجذبك إليه من الوهلة الأولى.